الاثنين، 25 أغسطس 2014

ما الفائدة فى التكرار فى سورة الكافرون ؟

 لكل من لا يعرف مدى بلاغة القرآن ودقة اختياره للمعانى أهدى هاتين الصفحتين من أصل خمس صفحات يفسر فيهم شيخ الإسلام بن تيمية سورة الكافرون التى يراها بعض الجهال مجرد تكرار لا فائدة منه
فصل إذا تبين هذا فنقول : القرآن تنزيل من حكيم حميد وهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت .
ولو أن رجلا من بني آدم له علم أو حكمة أو خطبة أو قصيدة أو مصنف فهذب ألفاظ ذلك وأتى فيه بمثل هذا التغاير لعلم أنه قصد في ذلك حكمة وأنه لم يخالف بين الألفاظ مع اتحاد المعنى سدى . فكيف بكلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لا سيما وقد قال فيه { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } .
فنقول : الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي فيعم الحاضر والمستقبل كما قال سيبويه : وبنوه لما مضى من [ ص: 552 ] الزمان ولما هو دائم لم ينقطع ولما لم يأت بمعنى الماضي والمضارع وفعل الأمر . فجعل المضارع لما هو من الزمان دائما لم ينقطع وقد يتناول الحاضر والمستقبل .
فقوله { لا أعبد } يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل وقوله { ما تعبدون } يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل كلاهما مضارع .
وقال في الجملة الثانية عن نفسه { ولا أنا عابد ما عبدتم } . فلم يقل " لا أعبد " بل قال { ولا أنا عابد } . ولم يقل " ما تعبدون " بل قال { ما عبدتم } . فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأولى .
والنفي بهذه الجملة الثانية أعم من النفي بالأولى . فإنه قال { ولا أنا عابد ما عبدتم } بصيغة الماضي . فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي لأن المشركين يعبدون آلهة شتى . وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى .
فقوله { لا أعبد ما تعبدون } براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة [ ص: 553 ] الماضية كما تبرأ أولا مما عبدوه في الحال والاستقبال . فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماض وحاضر ومستقبل . وقوله أولا : { لا أعبد ما تعبدون } لا يتناول هذا كله .
وقوله { ولا أنا عابد } اسم فاعل قد عمل عمل الفعل ليس مضافا فهو يتناول الحال والاستقبال أيضا . لكنه جملة اسمية والنفي بما بعد الفعل فيه زيادة معنى كما تقول : ما أفعل هذا وما أنا بفاعله .
وقولك " ما هو بفاعل هذا أبدا " أبلغ من قولك " ما يفعله أبدا " . فإنه نفى عن الذات صدور هذا الفعل عنها بخلاف قولك " ما يفعل هذا " فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه . ولا يدل على أنه لا يصلح له ولا ينبغي له ; بخلاف قوله " ما هو فاعلا وما هو بفاعل " كما في قوله { فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } وقوله { ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي } وقوله { وما الله بغافل عما تعملون } { وما أنت بهادي العمي } { وما أنت بمسمع من في القبور } { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } .
ولا يقال : الجملة الاسمية ترك الثبوت ونفي ذلك لا يقتضي نفي [ ص: 554 ] العارض . فإن هذه الجملة في معنى الفعلية نفي لكونها عملت عمل الفعل . لكنها دلت على اتصاف الذات بهذا فنفت عن الذات أن يعرض لها هذا الفعل تنزيها للذات ونفيا لقبولها لذلك . فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل والثاني نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل .
فقوله { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي نفسي لا تقبل ولا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط ولو كنتم عبدتموه في الماضي فقط . فأي معبود عبدتموه في وقت فأنا لا أقبل أن أعبده في وقت من الأوقات .
ففي هذا من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل ومن قوة براءته وامتناعه وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان ما ليس في الجملة الأولى . تلك تضمنت نفي الفعل في الزمان غير الماضي وهذه تضمنت نفي إمكانه وقبوله لما كان معبودا لهم ولو في بعض الزمان الماضي فقط . والتقدير : ما عبدتموه ولو في بعض الأزمان الماضية فأنا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدا .
ولكن لم ينف إلا ما يكون منه في الحاضر والمستقبل لأن المقصود براءته هو في الحال والاستقبال . وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم وإن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها .
[ ص: 555 ] فهو يتبرأ في الحاضر والمستقبل مما يعبده المشركون في أي زمان كان وينفي جواز عبادته لمعبودهم ويبين أن مثل هذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ . فهو ينفي جوازه شرعا ووقوعا . فإن مثل هذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقال : " أنا أفعل هذا ؟ ما أنا بفاعل هذا أبدا " . فهو أبلغ من قوله " لا أفعله أبدا " . وهذا كقوله { وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض } .
فهو يتضمن نفي الفعل بغضا فيه وكراهة له بخلاف قوله " لا أفعل " . فقد يتركه الإنسان وهو يحبه لغرض آخر . فإذا قال " ما أنا عابد ما عبدتم " دل على البغض والكراهة والمقت لمعبودهم ولعبادتهم إياه . وهذه هي البراءة .
ولهذا تستعمل في ضد الولاية فيقال : تول فلانا وتبرأ من فلان . كما قال تعالى { إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } الآية .
وأما قوله عن الكفار : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } فهو خطاب لجنس الكفار وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا . فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك . فإنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون .
[ ص: 556 ] وإن كانوا منافقين فهم كافرون في الباطن فيتناولهم الخطاب .
وهذا كما يقال : قل يا أيها المحاربون والمخاصمون والمقاتلون والمعادون . فهو خطاب لهم ما داموا متصفين بهذه الصفة .
وما دام الكافر كافرا فإنه لا يعبد الله وإنما يعبد الشيطان ; سواء كان متظاهرا أو غير متظاهر به كاليهود .
فإن اليهود لا يعبدون الله وإنما يعبدون الشيطان لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع وأمر . وهم وإن زعموا أنهم يعبدونه فتلك الأعمال المبدلة والمنهي عنها هو يكرهها ويبغضها وينهى عنها فليست عبادة .
فكل كافر بمحمد لا يعبد ما يعبده محمد ما دام كافرا . والفعل المضارع يتناول ما هو دائم لا ينقطع . فهو ما دام كافرا لا يعبد معبود محمد صلى الله عليه وسلم لا في الحاضر ولا في المستقبل .
ولم يقل عنهم " ولا تعبدون ما أعبد " بل ذكر الجملة الاسمية ليبين أن نفس نفوسكم الخبيثة الكافرة بريئة من عبادة إله محمد لا يمكن أن تعبده ما دامت كافرة . إذ لا تكون عابدته إلا بأن تعبده [ ص: 557 ] وحده بما أمر به على لسان محمد . ومن كان كافرا بمحمد لا يكون عمله عبادة لله قط .
وتبرئتهم من عبادة الله جاءت بلفظ واحد بجملة اسمية تقتضي براءة ذواتهم من عبادة الله لم تقتصر على نفي الفعل .
ولم يحتج أن يقول فيهم " ولا أنتم عابدون ما عبدت " كما قال في نفسه { ولا أنا عابد ما عبدتم } لوجهين .
أحدهما : أن كل مؤمن فهو مأمور بقراءة هذه السورة ومنهم من كان معبوده غير الله . فلو قال " ولا أنتم عابدون ما عبدت " لقالوا : بل نحن نعبد ما كنت تعبد لما كنت مشركا بخلاف ما إذا قال " ولا أنتم عابدون ما أعبده في هذا الوقت " . ولم يقل " ما أنا عابد له " إذ نفسه قد لا تكون عابدة له مطلقا . وقد يجوز أن يعبد الواحد من الناس غير الله في المستقبل فلا يكون من لم يعبد ما يعبده في المستقبل مذموما بخلاف المؤمن الذي يخاطب بهذه السورة غيره فإنه حين يقولها ما يعبد إلا الله . فهو يقول للكفار " ولا أنتم عابدون ما أعبده الآن " . وذكر النفي عن الكفار في الجملتين لتقارب كل جملة جملة . فلما قال { لا أعبد ما تعبدون } فنفى الفعل قال { ولا أنتم عابدون ما أعبد } .
[ ص: 558 ] ثم لما زاد النفي بنفي جواز ذلك وبراءة النفس منه ذكر ما يدل على كراهته له وقبحه ونفى أن يعبد شيئا مما عبدوه ولو في بعض الزمان قال { ولا أنتم عابدون ما أعبد } بل أنتم بريئون من عبادة ما أعبده . فليس لبراءتي وكمال براءتي وبعدي من معبودكم وكمال قربي إلى الله في عبادتي له وحده لا شريك له يكون لكم نصيب من هذه العبادة . بل أنتم أيضا في هذه الحال لا تعبدون ما أعبد لا في الحال الأولى ولا في الثانية .
ولو اقتصر في تبريهم من عبادة الله على الجملة الأولى لم يكن فيها تبرئة لهم في هذه الحال الثانية . فبرأهم من معبوده حين البراءة الأولى الخاصة وحين البراءة الثانية العامة القاطعة .
وهم لم يختلف حالهم في الحالين بل هم فيهما لا يعبدون ما يعبد . فلم يكن في تغيير العبارة فائدة وإنما غيرت العبارة في حقه وحق المؤمنين لتغيير المعنيين .
والإنسان يقوى يقينه وإخلاصه وتوحيده وبراءته من الشرك وأهله وبغضه لما يعبدون ولعبادتهم فرفع درجته في ذلك . وهو في ذلك يقول للكفار : " لا تعبدون ما أعبد " في هذه الحال سواء كانوا هم قد زاد كفرهم وبغضهم له أو لم يزد .
[ ص: 559 ] فالمقصود بالسورة أن المؤمن يتبرأ منهم ويخبرهم أنهم برآء منه .
وتبريه منهم إنشاء ينشئه كما ينشئ المتكلم بالشهادتين . وهذا يزيد وينقص . ويقوى ويضعف .
وأما هم فهو يخبر ببراءتهم منه في هذه الحال لا ينشئ شيئا لم يكن فيهم . فخطاب المؤمن عن حالهم خبر عن حالهم والخبر مطابق للمخبر عنه فلم يتغير لفظ خبره عنهم إذا كانوا في كل وقت من أوقات عبادته لله لا يعبدون ما يعبد . فهذا اللفظ الخبري مطابق لحالهم في جميع الأوقات زادوا أو نقصوا .
ولا يجوز للمؤمن أن ينشئ زيادة في كفرهم فإن ذلك محرم . بل هو مأمور بدعائهم إلى الإيمان . وليس له أن ينقصهم في خبره عما هم متصفون به . فلم يكن في الإخبار عن حالهم زيادة فيما هم عليه ولا نقص . فلم يغير لفظ الخبر في الحالين بلفظ واحد . وأما المؤمن نفسه فهو مأمور بأن ينشئ قوة الإخلاص لله وحده وعبادته وحده والبراءة من كل معبود سواه وعبادته وبراءته منه ومن عابديه . وقوله : { لا أعبد ما تعبدون } وإن كان لفظها خبرا ففيها معنى الإنشاء كسائر ألفاظ الإنشاءات كقوله " أشهد أن لا إله إلا الله " وقوله { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني } وقوله { إني بريء مما تشركون } فكل هذه الأقوال فيها معنى الإنشاء لها ينشئه المؤمن في [ ص: 560 ] نفسه من زيادة البراءة من الشرك وهي المقشقشة التي تقشقش من الشرك كما يقشقش المريض من المرض . فإن الشرك والكفر أعظم أمراض القلوب . فأمر المؤمن بقول يوجب في قلبه من البراءة من الشرك ما لم يكن في قلبه قبل ذلك . وكلما قاله ازداد براءة من الشرك وقلبه شفاء من المرض وإن كان الكفرة المخاطبون لا يزدادون بالإخبار عنهم إلا كفرا . فالجمل الخبرية تطابق المخبر عنه والإنشاء يوجب إحداث ما لم يكن . فقيل { قل يا أيها الكافرون } { لا أعبد ما تعبدون } أي أنا ممتنع من هذا تارك له ثم قال { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي أنا بريء من هذا متنزه عنه ; مزك لنفسي منه فإن الشرك أعظم ما تنجس به النفس وأعظم تزكية النفس وتطهيرها تزكيتها منه وتطهيرها منه . فما أنا عابد قط ما عبدتم في وقت من الأوقات .
وأنتم مع ذلك ما أنتم عابدون ما أعبد بل أنتم بريئون مما أعبد . وأنا بريء مما تعبدون مأمور بالبراءة منه وطالب زيادة البراءة منه ومجتهد في ذلك .
وأنا أخبر عنكم بأنكم بريئون مما أعبد إما لكونكم تأمرون بذلك وإما لكونكم تعبدونه فلا أخبر به فإنه كذب . وإما لكونكم تجتهدون في البراءة وتبالغون فيها فبها تختلف فيه أحوالكم .
[ ص: 561 ] وأنا لا يسوغ لي أن أذكر ما يزيل براءتكم ولا أكذب عليكم فإنكم تنقصون منها إذا تبرأت بل التبري منها داع وباعث لمن له عقل أن ينظر في سبب هذه البراءة لا سيما في حق الرسول الذي خوطب أولا . بقوله { قل } .
فلينظر العاقل في سبب براءتي من الشرك وما أنتم عليه واختياري به عداوتكم والصبر على أذاكم واحتمالي هذه المكاره العظيمة . بعد ما كنتم تعظموني غاية التعظيم وتصفوني بالأمانة وتسموني " الأمين " وتفضلوني على غيري ونسبي فيكم أفضل نسب وتعرفون ما جعل الله في من العقل والمعرفة ومكارم الأخلاق وحسن المقاصد وطلب العدل والإحسان وأني لا أختار لأحد منكم سوءا ولا أريد أن أصيب أحدا بشر . فاختياري للبراءة مما تعبدون وإظهاري لسبهم وشتمهم . أهو سدى ليس له موجب أوجبه ؟ فانظروا في ذلك . ففي السورة دعاء وبعث للكفار إلى طلب الحق ومعرفته مع ما فيها من كمال البراءة منهم .
ومعانيها كثيرة شريفة يطول وصفها .
وقوله : { قل يا أيها الكافرون } يتناول كل كافر . فهو لا يعبد ما يعبده أحد من الكفار ولا مشركي العرب ولا غيرهم من المشركين [ ص: 562 ] والكفار أهل الكتاب لا اليهود ولا النصارى ولا غيرهم من أصناف الكفار . وذلك أنه قال { لا أعبد ما تعبدون } . فذكر لفظ " ما " ولم يقل " من تعبدون " . و " ما " تدل على الصفة كما تقدم وما ذكره المهدوي وغيره من أنه قال : { ما أعبد } ولم يقل " من أعبد " يقابل به { ولا أنا عابد ما عبدتم } الذي يراد به الأصنام فضعيف جدا يغير اللغة ويخص عموم القرآن وهو عموم مقصود ويزيل المعنى الذي به تعلقت هذه البراءة .
فإن " ما " في اللغة إما لما لا يعلم ( أ و لصفات ما يعلم كما في قوله { فانكحوا ما طاب } { وما سواها } { وما خلق الذكر والأنثى } وفي التسبيح المأثور أنه يقال عند سماع الرعد : " سبحان ما سبحت له " ومثله كثير . فقوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } جار على أصل اللغة . وأيضا فقوله : { لا أعبد ما تعبدون } خطاب للكفار مطلقا فهو لا يعبد الملائكة ولا غير ذلك مما عبد من دون الله وإن كان ما عبد أهل العلم والعقل فعبر عن ذواتهم بـ " من " فتخصيص البراءة من الشرك بشرك مشركي العرب غلط عظيم وإنما هي براءة من كل شرك .
وكون الرب يتصف بما تتصف به الأصنام من عدم العلم ما لا [ ص: 563 ] يجوز عليه ولا تصح المقابلة في مثل ذلك . بل المقصود ذكر الصفات والإخبار بمعبود الرسول والمؤمنين ليتبرأ من معبودهم ويبرئهم من معبوده .
وإذا قال اليهود : نحن نقصد عبادة الله . كانوا كاذبين سواء عرفوا أنهم كاذبون أو لم يعرفوا كما يقول النصارى : إنا نعبد الله وحده وما نحن بمشركين وهم كاذبون . لأنهم لو أرادوا عبادته لعبدوه بما أمر به وهو الشرع لا بالمنسوخ المبدل .
وأيضا فالرب الذي يزعمون أنهم يقصدون عبادته هو عندهم رب لم ينزل الإنجيل ولا القرآن ولا أرسل المسيح ولا محمدا . بل هو عند بعضهم فقير وعند بعضهم بخيل وعند بعضهم عاجز وعند بعضهم لا يقدر أن يغير ما شرعه . وعند جميعهم أنه أيد الكاذبين المفترين عليه الذين يزعمون أنهم رسله وليسوا رسله بل هم كاذبون سحرة . قد أيدهم ونصرهم : ونصر أتباعهم على أوليائه المؤمنين لأنهم عند أنفسهم أولياؤه دون الناس . فالرب الذي يعبدونه هو دائما ينصر أعداءه .
فهم يعبدون هذا الرب والرسول والمؤمنون لا يعبدون هذا المعبود الذي تعبده اليهود . فهو منزه عما وصفت به اليهود معبودها [ ص: 564 ] من جهة كونه معبودا لهم منزه عن هذه الإضافة . فليس هو معبودا لليهود وإنما في جبلاتهم صفات ليست هي صفاته زينها لهم الشيطان .
فهم يقصدون عبادة المتصف بتلك الصفات وإنما هو الشيطان . فالرسول والمؤمنون لا يعبدون شيئا تعبده اليهود وإن كانوا يعبدون من يعبدونه . وهذا مما يظهر به فائدة ما ذكرنا .
وعلى هذا فقوله : { لكم دينكم ولي دين } خطاب لجميع الكفار كما دلت عليه الآية . وبهذا يظهر خطأ من قال إنه خطاب للمشركين والنصارى دون اليهود كما في قول ابن زيد : { لكم دينكم ولي دين } قال للمشركين والنصارى واليهود لا يعبدون إلا الله ولا يشركون إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء بما جاءوا به من عند الله ويكفرون " برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وقتلوا طوائف الأنبياء ظلما وعدوانا . قال : إلا العصابة التي تقول حيث خرج بخت نصر وقيل : من سموا عزيرا " ابن الله " ولم يعبدوه . ولم يفعلوا كما فعلت النصارى قالت : المسيح ابن الله وعبدته .
فهذا الذي ذكره من أن اليهود لا تشرك كما أشركت العرب والنصارى صحيح لكنهم مع هذا لا يعبدون الله . بل يستكبرون عن عبادته ويعبدون الشيطان لا يعبدون الله . ومن قال إن اليهود [ ص: 565 ] تعبد الله فقد غلط غلطا قبيحا . فكل من عبد الله كان سعيدا من أهل الجنة وكان من عباد الله الصالحين . قال تعالى { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين } { وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } وفي الصحيحين { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك تأتي قوما هم أهل كتاب فأول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله } وفي رواية : { فادعهم إلى عبادة الله فإذا عرفوا الله فأعلمهم . . . } " فلا يعبد إلا الله بعد أن أرسل محمدا وعرفت رسالته وبلغت . ولهذا اتفق العلماء على أن أعمالهم حابطة . ولو عبدوا الله لم تحبط أعمالهم . فإن الله لا يظلم أحدا .
وقبل إرسال محمد إنما كان يعبد الله من عبده بما أمر به . فأما من ترك عبادته بما أمر به واتبع هواه فهو لا يعبد الله إنما يعبد الشيطان ويعبد الطاغوت . وقد أخبر الله عن اليهود بأنهم عبدوا الطاغوت وأنه لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت .
وهو اسم جنس يدخل فيه الشيطان والوثن والكهان [ ص: 566 ] والدرهم والدينار وغير ذلك . وقال تعالى . { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } وقال { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان } الآية وهم أشد عداوة للمؤمنين من النصارى وكفرهم أغلظ وهم مغضوب عليهم . ولهذا قيل : إنهم تحت النصارى في النار . واليهود إن لم يعبدوا المسيح فقد افتروا عليه وعلى أمه بما هو أعظم من كفر النصارى . ولهذا جعل الله النصارى فوقهم إلى يوم القيامة .
فالنصارى مشركون يعبدون الله ويشركون به . وأما اليهود فلا يعبدون الله بل هم معطلون لعبادته مستكبرون عنها كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون . بل هم متبعون أهواءهم عابدون للشيطان .
فالنبي والمؤمنون لا يعبدون ما تعبده اليهود . وهم وإن وصفوا الله ببعض ما يستحقه فهم يصفونه بما هو منزه عنه . وليس في قلوبهم عبادة له وحده . فإن ذلك لا يكون إلا لمن عبده بما أمره به .
والسورة لم يقل فيها : " يا أيها المشركون " حتى يقال فيها إنها [ ص: 567 ] إنما تناولت من أشرك . بل قال { يا أيها الكافرون } فتناولت كل كافر سواء كان ممن يظهر الشرك أو كان فيه تعطيل لما يستحقه الله واستكبار عن عبادته . والتعطيل شر من الشرك وكل معطل فلا بد أن يكون مشركا .
والنصارى مع شركهم لهم عبادات كثيرة واليهود من أقل الأمم عبادة وأبعدهم عن العبادة لله وحده . لكن قد يعرفون ما لا تعرفه النصارى لكن بلا عبادة وعمل بالعلم . فهم مغصوب عليهم وأولئك ضالون . وكلاهما قد برأ الله منهم رسوله والمؤمنين .
وفي هذه الأمة من يعرف ما لا تعرفه اليهود والنصارى بلا عمل بالعلم . ففيهم شبه كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى . بل قد قال أبو هريرة : ما أقرب الليلة من البارحة أنتم أشبه الناس ببني إسرائيل . بل في الحديث الصحيح : { لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : اليهود والنصارى . قال : فمن ؟ وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : ومن الناس إلا أولئك } ؟ "
. وقال : " { افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت [ ص: 568 ] النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة } " .
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فيه حال الفرقة الناجية الذين هم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
ومما يوضح ما تقدم أن قوله { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } معناه المعبود . ولكن هو لفظ مطلق يتناول الواحد والكثير والمذكر والمؤنث . فهو يتناول كل معبود لهم .
والمعبود هو الإله فكأنه قال : لا أعبد إلهكم ولا تعبدون إلهي كما ذكر الله في قصة يعقوب . قال تعالى { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون } واسم الإله والمعبود يتضمن إضافة إلى العابد . وقال : { وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } هو الذي يعبده هؤلاء صلوات الله وسلامه عليهم ويؤلهونه . وإنما يعبده من كان على ملتهم كما قال يوسف { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس } إلى قوله { ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . فتبين أن ملة آبائه هي عبادة الله . وهي ملة إبراهيم . وقد قال تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } إلى قوله { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .
وإذا كان كذلك فاليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم وإذا لم يكونوا على ملته لم يكونوا يعبدون إله إبراهيم . فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملته قال تعالى { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } إلى قوله { وهو السميع العليم } فقوله : { قل بل ملة إبراهيم } يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملة إبراهيم .
وهذا بعد مبعث محمد مما لا ريب فيه فإنه هو الذي بعث بملة إبراهيم . والطائفتان كانتا خارجتين عنها بما وقع منهم من التبديل . قال تعالى { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } وقال { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم } الآية .
وقال { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } .
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

Translate