الأحد، 15 فبراير 2015

هل المنهج العلمى التجريبى يؤيد الإلحاد أم أن قصور المنهج التجريبى عن استيعاب كل أنواع الحقائق هو الذى يؤيد الإلحاد ؟

النظرية العلمية Theory تقدم تصورا ما لظاهرة معينة وتحوى بداخلها الحقائق التى هى مشاهدات تجريبية  facts والفروض والتبؤات Hypothesis فهى بالتأكيد لا تخلو فى النهاية من جزء عقلى وهذا لا خلاف عليه لكن هذا إذا كنا نتعامل مع شيء مادى أولا وآخرا بمعنى أن هذا المنهج أثبت نجاحه بلا شك لكن إذا كنا بصدد التعامل مع ظاهرة مادية طبيعية  لكن ماذا لو كنا نتعامل مع شيء معنوى أو قيمة مجردة  كالتصميم أو الغائية  أو الرسم أو الروايات الأدبية  أو كل ما يطلق عليه حاليا الإنسانيات Humanities فهنا سنواجه معضلة حقيقية تظهر أن نجاح العلم التجريبى الباهر فى التعامل مع الماديات لا يعنى أنه هو السبيل الوحيد للوصول للحقائق و لا  هو الطريقة المثلى للتعامل مع كل شيء  فمثلا لو سألتك فقلت هل يمكنك أن تقدم دليلا تجريبيا تثبت به أن لوحة الموناليزا أفضل من شخابيط ولدك الصغير على جدار البيت ؟ فسيكون الجواب هو (لا) وهذا العجز عن تقديم الدليل ليس ناشئ من عدم وجود حقيقة يمكن للعلم التجريبى التعامل معها لأن هذا يكون صحيحا لو كانت المقارنة بين أعمال مايكل أنجلو مع أعمال دافنشى مثلا لأن هذا أمر نسبى متغير حسب الأذواق لكن إذا كانت المقارنة بين قبح نعلم جميعنا قبحه وجمال نعلم جميعنا جماله فهنا وجدت حقيقة نعلم جيدا وجودها لكننا نعجز تماما عن التعامل معها بالإسلوب التجريبى لأنه بالفعل عاجز عن تناول هذا النوع المعنوى من الحقائق التى تتصف بكونها حقيقة لكن لا يمكن اخضاعها لقابلية التفنيد falsifiability ولا للقابلية الإختبار testability فلكنا نعلم يقينا أن هناك فرق بين شخابيط الولد الصغير وبين الموناليزا لكن العلم التجريبى لا يعلم هذا الفرق فى الحقيقة ولا يمكنه رؤيته فهما أمامه سواء مادامت كمية الألوان متطابقة والأبعاد التى تم تلوينها متساوية وما أشبه ذلك
قابلية التفنيد هى التى تبين العلم الصحيح من العلم الزائف وفقا للمنهج التجريبى لكن إذا كنت غير قادر على تقديم تجربة تؤيد أو تنفى وجود الغائية فهذا من النظرة العلمية يجعل الغائية والتصميم علوما زائفة وهذه هى الحجة التى يقدمها المجتمع العلمى سببا لرفضه نظرية التصميم الذكى وقبوله لنظرية التطور وهذا الحكم باطل بالكلية فكما عجزت عن أن تقدم تجربة تثبت أن الموناليزا أفضل من الشخابيط فيكون الحكم العلمى أن من ادعى أنها أفضل يكون قد قدم علوما زائفة فبنفس الطريقة كانت نظرية التصميم الذكى علوما زائفة  لكننا جميعا نعلم بلا شك أن ثمة شيء خطأ فى هذا التصور وهذا هو الذى أقصده بأن حصر العلم فى هذا المفهوم الضيق ليصبح العلم هو  فقط ذاك الشيء الذى يمكنه تقديم تنبؤات يمكن التحقق منها تجريبيا بمعنى أن الدليل التجريبى سوف يدعم أو ينفى تلك الفروض النظرية ومن ثم  فكل ما لا يمكن التحقق منه تجريبيا يكون علما زائفا أى أنه خرافة أو شيء نسبي لا يحمل بداخله حقيقة مطلقة .. فهذا ظلم للعلم التجريبى واقحام له فيما لا يعنيه وفيما يجعله مضاد للعقل وللحق لأنك حصرت الحقائق فى هذا الإطار بالرغم من أنك تعلم يقينا أن هناك حقائق خارج هذ االإطار وأن الإحتكام إلى هذا الإطار فى هذه المواضع يعطى نتيجة خاطئة بالكلية فوجود حقائق لا يمكن تقديم دليل تجريبى عليها يفند هذا المفهوم ويبين قصوره عن استيعاب كل أنواع الحقائق وبالتالى يجب التخلى عن هذا التعميم وتلك الدعوى بأنه كل ما لا يمكن أن يتحقق منه بالتجربة يكون خرافة أو علما زائفا أو أن يقيد بالظواهر الطبيعية أى أن يحصر هذا التعريف فقط عند التعامل مع الظواهر الطبيعية فإذا كان الشيء المراد معرفته معنويا فمن الحمق التعامل معه بالطريقة التجريبية وإنما يكون برهانه من جنسه وهو البرهان المنطقى كما كان البرهان الصحيح على الظاهرة الطبيعية برهانا ماديا تجريبيا من جنس الظاهرة

 الرياضيات تعتبر هى المثال النموذجى لبيان قصور العلم التجريبى فى استيعاب كل أنواع الحقائق وذلك لأن الرياضيات حقائق لكن وفقا للمفهوم الوضعى التجريبى فلا يمكن تسميتها علما لأنها لا تقدم تنبؤات يمكن التحقق منها تجريبيا خصوصا الرياضيات البحتة pure mathematics التى تميل إلى التعميم والتعامل مع الكليات بخلاف التطبيقية applied فالرياضيات البحتة هى تلك المستقلة عن العالم الفيزيائى والتى تعتمد على أدلتها المنطقية فحسب ولذلك فهى خير مثال للمعنى الذى نتحدث عنه الآن ولذلك قال الرياضياتى البريطانى الشهير هاردى أن عالم الرياضيات أشبه بالرسام والشاعر فهو يصنع أنماطا لكنها أكثر استمرارية لأنها أنماطا مصنوعة من الأفكار
 (A mathematician, like a painter or a poet, is a maker of patterns. If his patterns are more permanent than theirs, it is because they are made with ideas)
فهنا المعضلة أننا لا يمكن أن نسمى المبرهنات الرياضية  Theorem هذه إلا بأن نقول أنها حقائق ولكن مع ذلك فهى لا تقدم تنبؤات يمكن التحقق منها تجريبيا و لا يمكننا أن نقدم دليلا تجريبيا يدعمها وهذا بسبب استقلالية الرياضيات عن الواقع الفيزيائى فسواء كانت مبرهنة أو تخمين رياضى conjecture فالتجربة العملية لا يمكن إعتبارها دليلا حتى لو استخدمنا الحواسيب العملاقة التى يمكنها حل ملايين المعادلات فى ثوانى لأنك لو قمت بعمل مليارات مليارات التجارب فلا تضمن أن المليارات القادم ستلتزم بنفس الحلول فمثلا Collatz conjecture التى من تطبيقاتها الفراكتال (fractal ) تم التحقق منها بواسطة الحواسيب العملاقة  حتى قيمة 2.88 × 1018 وكذلك Riemann hypothesis تم التحقق من أول عشر ترليون صفر من دالة زيتا فهل تعد هذه التجارب دليلا تجريبيا على صحة تلك الرياضيات ؟
الجواب (لا ) لأنك لا تضمن أن تبقى النتيجة صحيحة إلى ما لا نهاية فقد يظهر الخطأ فى الأرقام الكبيرة جدا كما حدث فى
Pólya conjecture ,  Skewes' number , Mertens conjecture
 فهذه الأخيرة مثلا تبقى صحيحة حتى تصل إلى10أس 4.3 × 1039 وهذا رقم مهول يفوق مجموع جزيئات المادة فى الكون يمكننى أن أختم بمثال بسيط وهو الحقائق البديهية مثل كون النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان أو حقائق مثل كون الشيء لا يمكن أن يكون مربعا ودائريا فى نفس الوقت فمثلهذه الأشياء لا يمكن أن يكون نمط برهانها تجريبيا لأنك لو فتشت الكون لتبحثعن هذا المربع الدائرى فلم تجده فقد يكون فى كون آخر بالجوار ولكننا نعلم بالدليل المنطقى أن هذا الوصف يناقض ذاك فلا معنى لاجتماعهما ولأن الأدلة الإيمانية فى مجملها إستدلالية منطقية فالتصميم أو الغائية تعتبر أشياء معنوية يمكن فقط التعامل معها بالعقل إذا ليس لها وجود مادى كذلك دليل السببية  ليست قضيته  حول ماهية أو خصائص الأشياء وإنما هو حول فكرة سلسلة من الأشياء المترابطة بصرف النظر عن خصائص تلك الأشياء وهذه علاقة منطقية رياضية فى المقام الأول ولذلك يجب حسم قضية نوعية الدليل الصحيح والدليل الغير صحيح قبل الشروع فى أى حوار بين الفكر الدينى والفكر المادي لأن قصور العلم التجريبى عن تناول بعض الحقائق (المعنوية) يمكن الإحتيال به للطعن فى كل الحقائق المنطقية والقيم المعنوية و جعل الأمر يبدو على أن العلم التجريبى قدم الدليل على أنه لا حقائق إلا فى تلك التى تخضع لشروطه وليس أنه عجز عن أن يدرك الحقائق التى تخضع لشروطه ولم يتعرض لها والفرق بين أن تقدم الدليل وبين أن تعجز عن إدراك شيء هو الفرق بين الحق والباطل وهو الفرق بين تأييد العلم التجريبى للإلحاد وبين استغلال القصور الموجود فى العلم التجريبى فى تأييد الإلحاد ولذلك فقد كنت أبدأ معظم مناظراتى بأن أقول للملحد "أننى سأثبت لك وجود الخالق بنفس الدليل الذى تقدمه على أنك عاقل " لأن كل منا يعلم حقيقة أنه عاقل أو حقيقة أنه يفكر فى الأمر الفلانى فى هذه اللحظة أو منذ دقيقة لكنه يعجز تماما عن أن يقدم دليلا تجريبيا على أشياء كهذه لكنه فقط يمكن الإستدلال على مثل هذه الأمور بالأدلة المنطقية فيعرف الشخص الفرق بين حقائق معنوية مثل العقل والجنون والصدق والكذب فإذا كان لا يشك فى كون هذه حقائق بالرغم من قصور المنهج التجريبى عن التعامل معها فهو إذن لا يشك فى أن العلم التجريبى ليس هو الباب الوحيد لمعرفة الحقائق وهو إذن لا يشك فى أن قصور المنهج التجريبى لا يعد دليلا ضد الحقائق التى يعجز عن تناولها وهذه أرضية مناسبة لبدأ الحوار وهذا نفسه هو فحوي مناظرة عبد الواحد مع إبراهيم فى منتدى التوحيد*
_________________________________________________

* فقد بدأ عبد الواحد المناظرة (ونفس الأمر تكرر فى مناظرة إبراهيم مع نقد) بطلب واضح وصريح وهو سؤال إبراهيم هل تحترم المبرهنات الرياضية أم لا ؟ وظل يردد هذا السؤال الذى يفترض أنه الأرضية التى سينطلق منها الحوار طوال المناظرة بلا فائدة وضرب مثالا بمبرهنة فيرما وكان الغرض هو بيان أن هناك حقائق نعلم يقينا أنها حقيقة ونملك الدليل عليها ولا يمكن تجاهلها على الرغم من أنه لا يمكن التحقق منها بالدليل التجريبى ولم يأتى جواب إبراهيم إلا فى مداخلته الأخيرة التى انسحب بعدها فقال (نعم أحترمها) لكن لعل من يقرأ المناظرة لا ينتبه إلى أنها انتهت فى اللحظة التى كان يفترض أن تبدأ فيها وذلك لأنها حملت بمواضيع فرعية كثيرة وشد وجذب ومتاهات وقد حذرت عبد الواحد من أول مداخلة لإبراهيم فقلت له أن لا يخوض معه فى قضية شكل الكون ونتائج تجربة بوميرانج لأن هذه القضية لا تحسم شيء وليست محور النقاش وكان عبد الواحد يفهم ذلك جيدا لكنه لم يتصور أبدا هذا الكم الهائل من المراوغة الذى مارسه إبراهيم حتى تاه المتابعين وتداخلت المحاور والحقيقة أن نظرية نشوء الكون من التذبذب الكمومى ليس إبراهيم هو من أتى بها ولا لورانس كراوس ولا ستيفن هوكينج ولا أليكسندر فلينكين (فلينكين يقول بنشوء الكون من الفراغ الكاذب عن طريق النفق الكمومي ) وإنما هو إدوارد تيرون عام 1973 فى ورقة نشرت فى مجلة ناتشر بعنوان (Is the universe a vacuum fluctuation?)  و بنى تصوره هذا على أن كل الكميات التى تعمل عليها قوانين الحفظ يكون مجموعها الكلى صفر فإذا كان مجموع الطاقة الموجبة والسالبة فى الكون هو صفر فيمكن أن يكون قد نشأ من تذبذب كمى ووفقا لقانون حفظ الطاقة فيجب أن تكون قيمة الطاقة الموجبة المتمثلة فى المادة تساوى تماما الطاقة السالبة المتمثلة فى الجاذبية (فليس شرطا أن يتساويان فى كل الأحوال فمثلا مادة الأرض أكبر من جاذبيتها وجاذبية النجوم أكبر من مادتها ولذلك تنسحق فتكون الثقوب السوداء) وحينها سيكون المحصلة تساوى صفر ووفقا لقانون الريبة لهيزينبيرج فسيكون عمر الكون لا نهائى لأن طاقته صفر وعلاقة هذا بشكل الكون أنه لو كان مسطحا أى أن أوميجا =1 فهذا معناه أن الطاقة الموجبة تساوى السالبة وهذا ما جعله إبراهيم الفتح الأعظم الذى حققته نتائج بوميرانج على الرغم من أن إدوارد تيرون تنبأ بأن الكون سيكون مغلقا أى ان أوميجا أكبر من واحد وأن هذا الكون المغلق هو الذى يعبر عن أن الطاقة الموجبة تساوى السالبة بالضبط ولذلك فمن الواضح أنه يمكن تأويل أو تغيير التنبؤات بطريقة أو بإخرى للتتوافق مع النتائج ولذلك فقد كان الخوض فى شكل الكون لا طائل منه لأن التسليم به وبالنموذج كله لا يعنى أى شيء ولا أى دليل لأن السؤال نفسه مازال قائما لم يتغير منه شيء وهو هذا الفراغ الكوانتى أو الحد الأدنى من الطاقة هو الآخر محكوم بقوانين الكم وبالتالى فهو حادث مثله مثل أى شيء فى كوننا هذا وإذا كان حادثا فلا يمكن وصفه بالأزلية وهو بحاجة إلى محدث 
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

Translate