هل يمكن أن تتقاطع الخطوط المستقيمة المتوازية؟

هل يمكن أن تتقاطع الخطوط المستقيمة المتوازية؟


وفقا للهندسة الإقليدية اليونانية فهذا الأمر مستحيل لأن:


1- الخط المستقيم: هو مجموعة من النقاط المتصلة التي تمتد في اتجاهين متعاكسين إلى اللانهاية ، ولا ينحني.

2- الخطوط المتقاطعة تتشارك في نقطة تقاطع واحدة وبعدها يستمر كل خط في اتجاهه الخاص ولا يلتقيان مرة أخرى.

3- الخطوط المتوازية: لا يلتقيان أبدًا، مهما امتدا إلى اللانهاية، وتبقى المسافة بينهما ثابتة.

4-  الخطوط إما متوازية أو متقاطعة ولا يوجد احتمال ثالث. 

5- يستحيل أن تكون الخطوط متوازية ومتقاطعة معا لأن هذا يعني إلتقائها وعدم إلتقائها وهذا تناقض.


لكن هل يكفى هذا للخروج بأحكام قاطعة يقينية عن الكون والواقع من حولنا؟

العقول اليونانية انبهرت بمثل هذه الأحكام القطعية وجعلتها السبيل الوحيد للعلم بالواقع لكن جاءت بعد ذلك الهندسة الريمانية عن المنحنيات التي أثبتت أن الخطوط قد تكون متوازية في بعض النقاط ومع ذلك تتقاطع أيضا في نقاط أخرى مثل خطوط الطول حول الكرة الأرضية التي تتوازى عند خط الاستواء لكنها تتقاطع عند القطبين. وكانت هذه الهندسة عاملا أساسيا في تطوير نظرية النسبية العامة لأينشتين.

وهذا لا يعنى بالطبع أن الهندسة الإقليدية خاطئة فهي مازالت صحيحة في الفضاءات المستوية (المسطحة). لكنها لا تنطبق بالضرورة على عالمنا الفيزيائي المليء بالمنحنيات فلا يمكن المجازفة باطلاق أحكام عقلية مجردة لتفسير الظواهر الطبيعية فضلا عن تصور أن هذه الطريقة العقلية هي الطريقة العلمية الوحيدة وأما ما شابه الدليل التجريبي الاستقرائي فلا يخرج عن الحكم الظني المتغير الذي لا يصل بحال من الأحوال إلى العلم الموثوق, فهذه نظرة كارثية بكل المقاييس ومع ذلك تلقى قبولا واسعا في عالمنا العربي للأسف.

والحقيقة أن العلاقة بين الرياضيات والعلوم التجريبية علاقة تكامل وليست علاقة نزاع وتضاد ولا توجد نظرية علمية تخلو من النماذج الرياضية أو من التجارب والمشاهدات لكنني سقت هذا المثال لأنتقل منه إلى نزاع حقيقى تسبب فيه اعتماد البعض على التحليل المجرد للحكم على الواقع.

فمثلا برهان الصديقين لابن سينا يعتبر برهانا وجوديا أنطولوجيا من حيث أنه اعتمد على التحليل القائم على التعريفات والمفاهيم لاستكشاف الواقع الموجود في الخارج ثم أصبح هذا البرهان هو العمدة من بين أدلة وجود الله عند الرازي والآمدي والفلاسفة المدرسيون في القرون الوسطي وغيرهم الكثير حتى ظن كانط أن كل الأدلة على وجود الله ترجع في النهاية إلى الدليل الأنطولوجي بصورة أو بأخرى.
وبالرغم من أن هذا البرهان يمكن فهمه بشكل كوني متعلق بالسببية والافتقار إلى علة وجود وحينها يصبح صحيحا بلا اشكالات إلا أنه في عمقه يتضمن ثغرات لا ينبغي تجاهلها.


1- فهو لا يستطيع أن يثبت لواجب الوجود سوى هذه الضرورة الوجودية فقط النابعة من التعريف نفسه بصرف النظر عن ماهية هذا الشيء أو كماله أو صفاته فقد يكون هذا الوجود منسوب لعدة ذوات أزلية بينها روابط أزلية أيضا بل لعلها مدينة من الآلهة الخالد التي لا يمكن تغيير أي شيء فيها أزلا وأبدا فهل هذا هو الإله الذي نعبده كمسلمين؟ بالطبع لا وهنا يعلق كثير من المتكلمين والفلاسفة مع الملاحدة الماديون بعد أن يثبتوا ذاتا مجردة من كل صفة ويحاولون أن يجعلوا الخلاف لفظيا وهو قطعا ليس كذلك.


2- من يستخدم هذا البرهان بصيغة معاصرة يحكم على الكون بإمكان الوجود فقط لأنه لا ينتج عن فرض عدمه تناقض, ليظل أيضا عالقا مع الملحد الذي يفترض على الجانب الآخر أن الكون أزلي وبالتالي يكون في فرض عدمه تناقض, ويبقى الأمر هكذا في صراع الفروض.


3- وإذا ما انتقل الحوار إلى مرحلة أن مجرد افتراض أن الكون ممكن الوجود لا بأس به ولا يتطلب البرهنة على ذلك ظهر عيب آخر في تعريف ممكن الوجود بأنه ما يقبل بذاته الوجود والعدم فيكون وجوده في الواقع (الذي هو ترجيح الوجود على العدم)  دال على وجود سبب خارجي يرجح وجوده على عدمه. لأننا لو لم نفترض ذلك لكان ممكن الوجود بذاته يستوي في حقه الوجود والعدم وفي نفس الوقت لا يستوي في حقه الوجود والعدم إذ رجح بذاته الوجود وهذا تناقض. 

وهذا المعنى وإن كان يبدو قريبا من دليل السببية إلا أنه صورة معكوسة مشوهة للدليل لأنه ينتهى بإثبات ضرورة السببية بدلا من أن يبدأ بها. ولقائل أن يقول إذا كان ممكن الوجود هو ما يكون الوجود والعدم مستويان في حقه من حيث ذاته فلماذا يكون عدم تحقق أيا منهما هو معنى التساوي بدلا من أن يكون تحققهما بالتبادل الدقيق هو معنى التساوي؟
أي لماذا لا يكون مفهوم ممكن الوجود هو ما يوجد بذاته يوما ويعدم بذاته في اليوم التالي بدون أي مرجح أو تأثير خارجى؟ فهذه الحالة تصدق أيضا نفس المفهوم. بل إن هذا هو التصديق الأقرب للمفهوم في ظل مرحلة ما قبل السببية التي يعاني منها البرهان في هذه المرحلة حيث أنه مازال لم يثبت ضرورة السببية وسينتقل لها في الخطوة اللاحقة. 

هذا وغيره من الانتقادت الكثيرة التي يمكن توجيهها لهذا الدليل تبين الخلل المتأصل فيه بل وفي منهجه المكتفى بالمفاهيم المجردة للحكم على الواقع.



تعليقات