قام أحد الزملاء اللاأدرييون الذين تناقشت معهم سابقا حول دليل الافتقار السببي بنشر فيديو لنقد الدليل.
ولمن لا يعرف دليل الافتقار السببي يمكنه أن يتعرف عليه من خلال هذا المقطع القصير في دقيقتين فقط .
أما نقد الزميل فخرج في فيديو مدته ساعتين وربع, وهذا جهد مشكور له من جانب التحليل المنطقي. وأنا أقدر أي شخص يبذل جهده قبل أن يحكم على شيء ما, حتى لو كان حكمه غير صحيح, أو لم يوفق في فهم الحجة التي تصدر لنقدها, فهذا كله يمكن تصويبه وتوضيحه ومناقشته. أما من لا يبذل جهده في الفهم أصلاً ومع ذلك لا يتوقف عن إصدار الأحكام, فهذا مصاب بداء الحماقة ولا دواء له عندي.
والآن نبدأ في الرد على ما طرحه الزميل, لكنني لن أرد عليه 😀, وإنما سأجعله هو الذي يرد على نفسه ولن أضيف شيئا من عندي سوى التنسيق والتوضيح فقط.
الفيديو قدم خمس انتقادات أساسية جمعهم في هذه الصورة:
الاشكال الأول (A): أنه اعتبر أن الانتقال من عدم الافتقار لأسباب الوجود, إلى استنتاج القدرة المطلقة وعدم الافتقار لأسباب الخلق والإيجاد, هو قفزة غير مبررة منطقيا وبها ثغرات, لأن الأول عدم افتقار في سبب الوجود والثاني عدم افتقار في سبب الاتصاف بصفة أو القيام بفعل ما.
وهذا الاشكال سنرد عليه لاحقا
الاشكال الثاني (B): حول التناقض بين عدم الافتقار وبين القدرة المطلقة, وهو لا يعتبر اشكالا وإنما هو رحلة من سوء الفهم أفضت بالزميل لتناقضات من عينة من خلق الخالق؟ هل يستطيع الخالق أن يخلق خالقا آخر مثله؟ هل خلق الخالق نفسه؟ وهكذا لكنه أبلى بلاء حسنا في التخلص من هذه التناقضات كلها, وذلك بتقديم حلا صحيحا هو "إخراج القائم بنفسه من مجموع المتأثرين بتأثيرات القدرة المطلقة والخالقية" ويكون بذلك انتهى الزميل إلى تجويز أن يتصف الشيء بالقيام بنفسه مع اتصافه بالقدرة المطلقة بدون تناقض, أي أنه لم يثبت التلازم بين الصفتين لكنه نفي التناقض وقال بامكان الجمع بينهما.
الاشكال الثالث (C): وهو حول سؤال هل القادر على خلق شيء ما (س) بدون سبب سيكون قادرا على خلق شيء آخر (ص) بدون سبب أيضا وبالتالي يكون الخالق كلي القدرة؟
وهذا الاشكال معقد بعض الشيء فقد بدأه برحلة سوء فهم مثل السابقة تماما, ثم قدم الزميل حلا صحيحا مرة أخرى وهو طائفة التكافؤ
وبالتأكيد عندما قلت أن غياب سبب (س) هو نفسه غياب سبب (ص), فأنا هنا كنت أتحدث عن العدم المضاف من باب الوجود وليس من باب الماهية لأنني أميز بالفعل في نفس العبارة بين ماهية (س) وماهية (ص). فالخالق الذي لم يحتج للاستعانة بأي سبب طبيعي من أسباب إيجاد (س) ومع ذلك كان قادرا على خلق (س), هو بالضرورة لن يحتاج للاستعانة بأي سبب طبيعي من أسباب إيجاد (ص) حتى يخلق (ص). وهذا ما وافقني عليه الزميل بالفعل من خلال طائفة التكافؤ, حين "وحًَد الحكم على مجموعة المخلوقات أو المحدثات في ظل غياب الأسباب" فجعل بذلك القادر على إيجاد شيء من الممكنات في ظل غياب أسباب وجوده الطبيعية يكون قادرا على خلق غيره من أفراد هذه الطائفة المتكافئة في الحكم والتي تجمع كل الممكنات. أي أن الخالق يجب أن يكون كلي القدرة, قادر على إيجاد كل الممكنات.
لكنه سرعان ما استشكل الزميل على ذلك بنفس الاشكال المتهافت الذي قدمه في الاشكال (B) وأنه بذلك سيكون الخالق قادرا على خلق نفسه أو مثله, ثم قدم نفس الحل الصحيح الذي أخرج به الخالق من مجموعة المفتقرين التي تتضمن ممكنات أو موجودات تم خلقها من الخالق في ظل عدم اافتقاره لأسبابها الطبيعية.
ومع أن الحل صحيح إلا أن الزميل اعتبره تحكماً, أو مغالطة الإعفاء الخاص غير المبررة.
يا رجل كيف غير مبررة؟
وهل دخل غير المفتقر في جملة المفتقرين يوما ما حتى تخرجه أنت الآن من بينهم ثم تعتبر خروجه غير مبرر؟
مخطط الافتقار السببي يبدأ بجعل الشيء مفتقر أو غير مفتقر ثم ننتقل إلى بحث القدرة لاحقا.
فالتفريق في الحكم بين الغير مفتقر والمفتقر هو المقدمة الأولى أصلا.
فالحاصل أن هذا الاشكال فاسد كما بينت, وغياب أسباب وجود الغير مفتقر ليست كغياب أسباب وجود المفتقرين لأن الأول غير مفتقر للأسباب أصلا. والثاني مفتقر في وجوده للأسباب دائما وأبدا, سواء كانت هذه الأسباب طبيعية أو كانت قدرة مطلقة للخالق.
لكنني وكما وعدتكم لن ألجأ إلى حلول خارجية لم يذكرها الزميل, وإنما فقط سأرد عليه بكلامه فقط.
فالحل لتبرير استثناء الخالق من المجموعة أو الطائفة فاي هو نفس ما قدمه هو لحل الاشكال (B) وذلك بإخراج الخالق من مجموعة المخلوقات المفتقرة في وجودها للأسباب لأن عدم اخراجه يؤدي إلى تناقض من خلال التعريف نفسه.
إذن حل الشق الأول من الاشكال (C) هو نفس حل الاشكال (B).
وبذلك يكون الخالق كلي القدرة لأنه إذا كان أوجد (س) من عدم بدون الافتقار لأسباب وجودها فهو قادر على ايجاد (ص) كذلك من العدم بدون الافتقار لأسباب وجودها, وهذا في حد ذاته يرد على الاشكال الرابع (D) لأنه لا معنى لوجود طبيعة أو أسباب داخلية تجعل الخالق قادرا على خلق (س) بدون سبب ولا تجعله قادرا على خلق (ص) بدون سبب. فهذا تم تفنيده بمجرد وجود طائفة غياب الأسباب التي قدمها الزميل, وأقر بأن هناك تلازم بين الخلق والقدرة المطلقة.
ثم ذكر الزميل الشق الثاني من الاشكال (C) والذي أسماه بالهدية في الاشكال (A), وذلك أننا حتى لو قبلنا باستثناء الخالق من الطائفة فاي φ فسوف يعود ذلك على أصل حجتى بالابطال, لأنه ظن أن العامل المشترك بين عدم الحاجة لسبب في القيام بالنفس وعدم الحاجة لسبب لخلق شيء, هو الحصول على شيء ما مجانا في كل مرة بدون سبب!! ويلا العجب العجاب من هكذا تصور!!
لكن الحقيقة أن العامل المشترك في أن يتحقق للشيء نتيجة معينة هي الوجود بذاته بدون سبب, وبين أن يكون كلي القدرة قادر على خلق الأشياء بدون سبب, هو "عدم الافتقار للأسباب في الذات والصفات والأفعال وكل شيء".
أي أننا إذا قمنا بتنفيذ نفس الحل (C) مرة أخرى لكن مع تعديله لعمل طائفة أخرى على غرار طائفة الخلق في ظل غياب الأسباب, لتكون هذه المرة طائفة عدم الافتقار للأسباب عموما وليس فقط للخلق. فسيكون ذلك هو الحل للاشكل (A) الذي جعله الزميل هدية أو ثغرة أو قفزة غير مبررة, وهو أبعد ما يكون عن ذلك, فعدم الافتقار لأسباب الوجود بالذات له نفس حكم عدم الافتقار لأسباب الفعل أو الايجاد لشيء آخر بدون سبب, وأنا هنا لم أستخدم شيئا جديدا وإنما فقط طائفة التكافؤ التي استخدمها هو.
وأخيرا الاشكال الخامس (E): وهو محض سوء فهم. فنحن لا نقول أن استغناء الغير مفتقر للأسباب عن الأسباب يعد خرقاً للسببية, وكيف يكون ذلك وهو لم يفتقر للأسباب أصلا حتى يكون فعله أو وجوده خرقا لها. وكذلك لم نقل أن خلقه للمخلوقات بدون حاجته لسبب, يعنى أن المخلوقات وُجدت بدون سبب. وإلا فكيف ننسب وجودها للخالق أصلا إذا لم يكن هو سبب وجودها. وكذلك لم نقل أن تحقق وجود الخالق بدون سبب يعنى أنه أوجد نفسه أو أنه قادر على إيجاد نفسه أو مثله أو أن وجوده بدون سبب كإيجاده للمفتقرين بدون الحاجة لسبب وجودهم. فهذا كله خلط يعيدنا للحل (B) الذي يذكر زميلنا بالمقدمة الأولى من مخطط الافتقار السببي وأن الشيء إما أن يكون مفتقراً للأسباب وإما ألا يكون مفتقراً لها.
الخلاصة:
1- الاشكال الأول (A): حله هو (C المعدلة).
2- الاشكال الثاني (B): حله هو الحل (B) الذي قدمه الزميل.
3- الشق الأول من الاشكال الثالث (C): حله هو الحل (B).
4- الشق الثاني من الاشكال الثالث (C): حله هو الحل (C المعدلة).
5- الاشكال الرابع (D): حله هو الحل (C).
6- الاشكال الخامس (E): حله هو الحل (B).
وبذلك أكون قد وفيت بوعدي ورددت جميع اشكالات الزميل بنفس الحلول التي اقترحها هو وأقر بصحتها.
والحمد لله رب العالمين
تعليقات
إرسال تعليق