أهمية تعلم العلوم التجريبية

 



قديما كان إتقان المبارزة والفروسية يعد ضرورة لحفظ النفس والأهل والدين ولدفع بغي الصائل الجائر، فقد كانت القوة القتالية منوطة بامتلاك مثل هذه المهارات، أما الآن فهما رياضات جميلة تكسب الممارس لها صحة بدنية ومتعة كسائر الرياضات المفيدة لكنهما لا يصلحان للعب نفس أدوارهما القديمة في حروبنا المعاصرة. هذا مجرد مثال أسوقه كتمهيد للحديث عن شيء آخر ألا وهو الفلسفة وعلم الكلام ودورهما المعاصر في الدفاع عن العقائد.


قديما كانت الفلسفة وعلم الكلام من أبرز المنتجات البشرية وكانت قوة مؤثرة ومحركة للشعوب والحضارات ولذلك انغمست فيها مدارس إسلامية شتي سواء لتوظيفها في إقامة الحجج الدينية أو لدفع الصائل الجائر الممتلك لتلك الآلة الفكرية المبهرة أو حتى لاستخدام أدواتها بغرض الهدم الذاتي لتلك المنظومة الفلسفية برمتها. لكن الجولة الآن للعلوم التجريبية فهي القوة المؤثرة في هذا العصر وإن أبى المغيبون ، ومنجزات العلوم التجريبية وتطورها السريع لم يكن من فراغ ولكن لخصيصة لصيقة بها ألا وهي التمتع بقدر كبير من الموضوعية افتقدته الفلسفة والعلوم العقلية، فطلبة الفيزياء اليوم يعلمون عن النسبية وميكانيكا الكم أكثر مما كان يعلمه آينشتين وهيزينبيرغ بل إن المعادلات نفسها تخبر عن النظريات التي تتضمنها بما لم يعرفه واضعوها ابتداء أو ربما حتى ما ظنوه على النقيض من نظرياتهم ثم تأتي التجارب لدفع العجلة للأمام وتضييق مساحة الجدل قدر المستطاع وقد ضربت لذلك عدة أمثلة من قبل. أما الفلسفة والعلوم العقلية فيمكن أن تظل مئات وآلاف السنين تدور في فلك المفكر أو الإمام أو الفيلسوف وتسأل ما الذي أراده وما الذي لم يرده بدون أن تتقدم خطوة واحدة للأمام.

ومع ذلك مازال يمكنك التعمق كما شئت في المباحث العقلية والفلسفية المتنوعة قديما وحديثا فنحن لسنا أمام لعبة صفرية zero sum game لا يفوز أحد أطرافها إلا بخسارة الطرف الآخر بل هناك فرص جماعية للفوز حين يأخذ كل مجال حقه. ومازال هناك فوائد فلسفية مرجوة في تنقيح الأفكار وبناء الاستدلالات بل وهناك ساحات صاخبة بالجدل الفلسفي مثل الإنسانوية والنسوية والعدمية والليبرالية والعلمانية والرأسمالية والشيوعية والحداثة إلى غير ذلك مما لا يماس العلوم بشكل مباشر لكن لم يعد يمكن الاكتفاء بالفلسفة والعقليات بمعزل عن التجريبيات عند مناقشة إثبات وجود الله مثلا. 

فأصول الدين بات لها تشابكات عدة مع طيف العلوم التجريبية بعد أن كانت متداخلة أكثر مع الفلسفة وهذا أمر طبيعي لأن الواقع يعيد توزيع الأدوار بشكل مستمر لكن للأسف نحن عالقون في توزيعة قديمة جدا. وعندما أتحدث عن توظيف العلوم التجريبية لخدمة جناب الدين لا أقصد بذلك الإعجاز العلمي الذي أنهك التكلف والتأويل أغلب أدبياته. ولا أقصد استبدال دليل السببية بنظرية الانفجار العظيم مثلا ولكن أقصد الانتفاع بالتجريبيات في تغيير إدراكاتنا وتصوراتنا عن الكون و الخروج بصياغات قوية لحججنا لا يمكن معارضتها فلسفيا أو علميا .كما أحث على البحث الموضوعي في القضايا الشائكة أو الدوائر المشتركة بين العلم والدين فهذه التي يجب أن يكون لنا فيها السبق قبل أن يمتزج فيها العلم بالعلموية والطبيعانية، والأمر ليس باليسير ليقوم به فرد أو بعض أفراد بجهودهم الذاتية لأن العلوم التجريبية في غاية التوسع والدقة والصعوبة بل إن حصول شيء من ذلك بمثل هذا الارتجال الفردي أشبه بالمعجزة وإن كان يحدث فعلا بفضل الله وحده. ورغم أن التداخل بين دائرة العقليات ودائرة الدين كان أوسع من تداخل تلك الأخيرة مع دائرة التجريبيات إلا أن هذا الاتساع قد يكون من المثالب وليس من المحاسن لأنه مظنة الاختلاط وضياع روح الدين وهذا مصداق ما وقع لكثير من الفرق الإسلامية المتلبسة بالتفلسف والتكلم.


باختصار ليس هناك كلمة للفلسفة في المناطق التي غزتها العلوم التجريبية ومع التمدد المستمر لهذا الغزو ينحسر دور الفلسفة. وأظن أن كثير من الحروب الطاحنة التي أنشأتها الفلسفات القديمة ومازالت مشتعلة في الأمة حتى يومنا هذا يمكن حسمها إذا تمت الاستعانة بالرياضيات والعلوم التجريبية مثل ما ذكرته سابقا عن دليل الحدوث الكلامي في مقابل الإلكترون.


أيوا يعني إيه المطلوب حضرتك؟

تعلموا دينكم وتعلموا العلوم التجريبية فإننا في أمس الحاجة لمن أتقنهما معا.


ولتتمة الفائدة أقول...

أننا لا نريد طالب دحيح يحفظ المناهج فيحصل أعلى الدرجات بدون فهم عميق وقدرة على البحث والتعلم الذاتي ليصير بذلك أستاذا جامعيا ينسخ لنا آلاف النسخ منه ويترقى في سلمه الوظيفي بأبحاث تقليدية لا قيمة لها في المسار العلمي الحقيقي.


وكذلك كلنا تفتخر ونفرح كثيرا بالإنجازات العلمية لأساتذة مسلمين ونعتبر هذا نصر للإسلام لمجرد أنهم مسلمين. لكن الفتن أصبحت تتكاثر يوم بعد يوم فإن كنت أيها الباحث المسلم متخصص في أحد العلوم التجريبية التي تتداخل مع بعض السرديات أو البراهين الدينية فلابد أن تضرب بسهم لفض الاشتباك وكشف الضباب في هذه المنطقة المتداخلة وإلا فإن لم تعتبر هذا تكليفا خاصا من الله فمن برأيك المكلف بمثل هذه المهمة؟


وعموما فإن استكثار المسلمين/الملحدين بعلماء مسلمين/ملاحدة لنصرة مذهبهم هي مغالطة صريحة بل هي قولبة فلسفية للعلوم، فليس المهم معتقد العالم ولا حتى أقواله وإنما يهتم العلم فقط بالأدلة المؤيدة أو النافية لقضية ما فإن لم تستطع تقديم النماذج الرياضية والتجارب المؤيدة لفكرتك فلا عبرة لقولك في العلم حتى ولو كنت مؤسس هذا العلم نفسه. 


أخيرا وليس آخرا فإن احترام العلم لا يعني تقديسه فكل ما في العلوم متاح ومطروح للتشكيك وإعادة النظر وهذه هي المنهجية العلمية الصحيحة. كما أن المجتمع العلمي ليس معصوما من الخطأ والتحيز فمثل ذلك يقع في أي منتج بشري بما في ذلك العلم ويفترض أن يصحح العلم نفسه بنفسه مع الوقت. ولذلك ظهرت مجلات كبري جعلت معيارها الأساسي في النشر هو صحة البحث المقدم علميا فقط بغض النظر عن مدي توافقه مع الاهتمامات العامة في مجاله لأن هذا التقييم الأولي لأهمية البحث ومدي التأثير المحتمل الذي سيخلفه في المجال كان ومازال باباً لدخول التحيز.

تعليقات