الموت والحياة - الجزء الثاني -





فى الجزء الأول تكلمنا عن مفهوم الحياة والموت بالنسبة لأفراد الكائنات الحية وفي هذا الجزء نتعامل مع مفهوم وشروط الحياة بالنسبة لمملكة الكائنات الحية أو بالنسبة للنظام البيولوجي نفسه. 


وكنا قد ذكرنا أنه ينبغى الوقوف مع الطريقة التي اتبعها نيلسون فى ورقته (1) التى استنتجت حتمية الشيخوخة  والموت لأن هذه الطريقة تفتح المجال أمام تساؤلات هامة تتعلق بشروط استمرار ظاهرة الحياة فما هى هذه الطريقة وما الذى تشير إليه؟ 


نيلسون وماسل تعاملوا مع جسم الكائن متعدد الخلايا باعتباره نظاما بيولوجيا مكون من مجموعة خلايا متعاونة ونظروا للسرطان على أنه مجموعة خلايا أنانية داخل هذا النظام وخلصوا إلى أن تعطل هذا التعاون هو النتيجة الحتمية لهذا النظام بصرف النظر عن عدد الخلايا أو نوع وحجم الكائن الحي ...حيث قالوا: 

(regardless of the number of cells, either cell function or cooperation will eventually break down) 


(بغض النظر عن عدد الخلايا ، ستتعطل وظيفة الخلية أو التعاون في النهاية)


 كما أكدوا على أن مشكلة التعاون فى مواجهة الأنانيين التي تنتهي بزوال التعاون ومن ثم الحياة لا يمكن حلها أبدا لأن أى حل ينصر المتعاونين سوف يظل هو نفسه معرضا للاختراق من قبل أنانيين آخرين فيمكن لأى حل مقترح أن يعطل أو يمنع الأنانيين لبعض الوقت لكن لا يمكن أن يوجد حل نهائي لهذه المشكلة ..حيث قالوا: 


(More broadly, any adaptation that may prevent or delay cancer can itself become the target of a selfish trait.) 


(على نطاق أوسع ، أي تكيف قد يمنع السرطان أو يؤخره يمكن أن يصبح في حد ذاته هدفًا لسمات أنانية)

وضربوا بعض الأمثلة على ذلك:

التيلومير مثلا هو مجموعة نوكليوتيدات متكررة في نهاية الكروموسومات تنقص تدريجيا مع كل عملية انقسام مما يجعل هناك حد نهائي لعدد الانقسامات المسموح بها لأى خلية وهذه تعتبر آلية تعاونية لقمع الميل الأناني السرطاني داخل الخلية الذي يدفعها للتكاثر بلا حدود ويجعلها تطغى على الخلايا من حولها لكن هذه الآلية لا يمكن اعتبارها حل نهائي لإنقاذ التعاون لأن هناك إنزيم التيلوميريز الذى يمكنه إصلاح التيلومير إلى ما لا نهاية وبالتالى يسمح للسرطان أن ينمو والفائدة من وجود التيلوميريز هى أن الخلايا تحتاج إلى إفرازه فى المرحلة الجنينية لأن معدل الانقسام يكون ضخم جدا حينها. 

وكمثال آخر لقدرة الأنانيين على تجاوز الآليات التعاونية هو برنامج التحلل الخلوى Apoptosis

و الذى يتم تنشيطه من خلال الخلايا المحيطة لإزالة الخلية المريضة أو المعيبة مما ينتج عنه رفع كفاءة الكائن الحى وتنقيته من الآفات وإبقائه فقط على الخلايا المتعاونة السليمة ولذلك يعتبر برنامج التحلل الخلوى آلية تعاونية لكن الخلايا السرطانية تمتنع عن الاستجابة لأوامر برنامج الانحلال الخلوى ثم توجه هى هذه الأوامر لقتل الخلايا السليمة من حولها وبذلك تتجاوز هذه الآلية التعاونية بل وتستخدمها لصالحها. 

وهذه المعالجة تعرف باسم مأساة الموارد المشتركة أو معضلة السجين والنتيجة التى خرج بها البحث والتى تقول بحتمية زوال التعاون و استحالة وجود حل نهائي لهذه المشكلة يمكننا تعميمها على النظام البيولوجى ككل واستنتاج أنه ما كان ينبغى أبدا وجوده واستمراره وتنوعه وهروبه من الانهيار الحتمي الذي كان دائما ينتظره لو أننا احتكمنا إلى قوانينه الداخلية وحاولنا تفسير قيامه بها بدلا من اعتقاد أن قيامه كان من خالقه ومدبر أمره الذي أظهر لنا هذه القوانين البيولوجية لتخبرنا أنها فى نفسها عاجزة عن إقامة هذه الحياة.

ولذلك فإن مشكلة التعاون تصطدم بآليات التطور الأساسية مثل الانتخاب والطفرات ويتطلب الأمر دائما وجود آليات إضافية أو خارجية مؤقتة exogenous mechanisms هذا بالتأكيد يطعن فى نظرية التطور وقدرتها التفسيرية لوجود وبقاء النظام البيولوجي لأنه لا يوجد حل دائم أو عام للمشكلة حتى إنها سميت "معضلة داروين الأخيرة" 

على حد وصف روبرت ماي عملاق اوكسفورد الذي وضع مع مارتن نواك آلية التركيب المكاني و التي هي أحد أهم الآليات الإضافية لدعم التعاون(2


داروين نفسه قال فى كتابه أصل الأنواع عن مشكلة التعاون(3)


I…will confine myself to one special difficulty, which at first appeared to me insuperable, and actually fatal to my whole theory


(سوف أقتصر على مشكلة خاصة واحدة والتى بدت لى فى أول الأمر لا يمكن التغلب عليها وأنها فى الواقع قاتلة لنظريتى بأكملها)


لماذا قال أنها قاتلة للنظرية بأكملها؟

لأن جوهر وأصل نظريته هو الانتخاب الطبيعى وهو يناقض التعاون وهناك سبب آخر لم يكن داروين يدركه جيدا حينها وهو

أنه لا يمكن تفسير أى شكل من أشكال الحياة بدون تفسير نشأة التعاون والحفاظ عليه  emerge and maintenance لأن التعاون يتداخل مع كل جزئيات وبنى وتراكيب الحياة بدأ من تعاون وتنافس الجينات وانتهاء بالسلاسل الغذائية والتوازن البيئى ..


لماذا قال (فى أول الأمر)؟

لأنه اقترح آليات ظن أنها قادرة على حل المشكلة لكن هذا لم يحدث فى الحقيقة ومازال  التعاون مشكلة كبرى لم تحل حتى الآن رغم كل هذا السعي الحثيث ( و نحن نزعم أنه لا يمكن أبدا حلها في ظل الاكتفاء بالإطار الدارويني و الآليات المادية عموما) وكذلك لا يمكنهم تجاهلها مهما حاولوا التظاهر بأن كل شيء على ما يرام . (أو  كما يقال….. The elephant in the room)


وقد أدرك الدراونة منذ زمن بعيد أنه لا يوجد حل جوهرى عام لمشكلة التعاون حيث انتبه إلى ذلك هالدين أحد أعمدة الداروينية الحديثة وذكر على أنه لا يوجد مبدأ عام يمنع الانتخاب الطبيعى من نصرة الأنانى ضد المتعاون (4)


as early as in 1932 J. B. S. Haldane pointed out that there was no general principle preventing adaptive evolution from harming population performance



مشكلة التعاون أنه مكلف ثم أنه معرض دائما للاستغلال و هاتان معضلتان: 

1-لأنه إذا كان مكلفا فكيف وجد و انتشر بالانتخاب الطبيعي؟ 

2- إذا كان معرضا دائما للاستغلال من قبل الأنانيين فكيف استمر و صمد كل هذا الوقت؟ 


وقد أغفل منتقدي داروين  المعاصرين له هذه المعضلة و اهتموا بمعضلة توريث الصفات ( و سبحان الله مازالت حتى اليوم معضلة التعاون مهملة من منتقدي التطور)

لكن بعد مائة عام تقريبا من صدوركتاب أصل الأنواع عاد هاميلتون وأقر أن التعاون هو المشكلة الأكبر وقدم آلية إضافية لتفسير التعاون و هي انتخاب ذوي القربى ليصبح بذلك أهم عالم بيولوجي بعد داروين ثم جاء إدوارد ويلسون و مارتن نواك وقدموا تفسير إنتخاب المجموعة وقدم نواك مع ماى آلية التركيب المكانى. 


 لكن كل هذه الآليات الإضافية لا تقدم حلا نهائيا لحفظ التعاون فهي بالكاد تفسر إمكانية وجوده في ظروف خاصة محددة و لا تفسر انتشاره العام و استمراره الدائم في كل صور و مستويات الحياة أو بكعنى أصح تقدم خنادق للمتعاونين يمكنهم الاختباء بها من الأنانيين لكى لا يتقابلوا معا.

و يبقي التعاون دائما مهددا لأنه منهزم أمام الأناني لا محالة وفقا لحكم الانتخاب الطبيعي.

وهذا يظهر جليا في مأساة الموارد المشتركة و معضلة السجين التي قضت بأن مقابلة واحدة بين متعاون و أناني ستنتهي حتما لصالح الأناني مما يؤدي إلي زوال التعاون و من ثم زوال المجتمع كله بما في ذلك الأناني مما يعني انتهاء كل صور الحياة .


ولكى لا يظن أحد أن هناك شيء حديث فى نظرية التطور تجاوز معضلة التعاون أنقل هنا بعض الاقتباسات من ورقة علمية طويلة (5) حوالى 90 صفحة نشرت حديثا فى 2019 وعرضت مشكلة التعاون والآليات الاضافية التى تحاول تقديم حلول للمشكلة

وذكرت أن انتخاب ذوى القربي وانتخاب المجموعة لا يوفران رؤى قيمة بشكل خاص حول

متطلبات التعاون المستقر.


the frameworks of kin-selection and group-selection.14 While we

think that both frameworks do not provide particularly valuable insights into the

requirements for stable cooperation,


وكيف مثلا كان يظن فى منتصف القرن الماضي أن انتخاب المجموعة  قد حل مشكلة التعاون لكن لم يصمد هذا الادعاء طويلا وتم توجيه انتقادات شديدة له 

in the mid 20th century. In that period, the dilemma of cooperation was believed to be solved by selection on a group or even species level and the latter was even referred to as species selection. However, this alleged success did not hold for long. Drastic criticism was formulated for example by George C. Williams [372] and the idea of group-selection became less and less popular


وكما عرضت الورقة الانتقادات ضد انتخاب المجموعة عرضت أيضا الانتقادات ضد انتخاب ذوى القربى و الانتقادات ضد التركيب المكانى وهذه هى أهم الآليات الاضافية التى قدمت كمحاولة لحل مشكلة التعاون ثم عرض المؤلفون الحل (الجزئي) المحتمل كما يرونه - قد اتفقنا أنه لا يوجد حل عام لمشكلة التعاون- وحلهم كان محاولة لأخذ محاسن كل آلية والوصول لحل وسط وهو وجود معدل انتشار متوسط للمتعاونين للأن معدل انتشارهم لو كان قليلا أو معدوما فلن  يتفادوا ظهور الأنانيين داخل مستعمراتهم عن طريق الطفرة أو الهجرة إليها ولو كان معد الانتشار كبيرا لإلتقوا بالأنانيين فى الطريق أو لدخلوا إلى مستعمراتهم .


. The (partial) answer to the dilemma of cooperation obtained

from these studies is that regular dispersal leading to population bottlenecks

and subsequent population growth can promote cooperation. In that sense, the

mechanism is diametrically opposed to Hamilton’s suggestion that limited dispersal

can facilitate cooperation [133]. A closer look though reveals that in these

structured populations it is actually the interplay between limited dispersal and

strong dispersal resolving the dilemma.


لكن هذا فى الحقيقة ليس حلال أيضا لأن الانتشار المتوسط للمتعاونين لا يمكن أن يحل معضلة التعاون ولو بشكل جزئى (ما دام لا يوجد مانع يمنع الأنانيين من امتلاك معدل انتشار كبير)

فما دامت نظرية التطور لا تملك ما يمنع الأنانى من الذهاب للمتعاون فلا قيمة لكل محاولات الفرار المذكورة 


فعدم اتيان الفريسة إلى باب المفترس لم يكن يوما مانعا للإفتراس …..والمتعاون والأنانى هما بالضبط كالفريسة والمفترس


وفى النهاية يتضح لنا من خلال هذا المقال والمقال السابق أن حياة الكائنات عموما وحياة كل منا خصوصا هى محض منة ربانية تتجاوز إطار الكيمياء والفيزياء والمادة والانتخاب الطبيعى وكل هذه العوامل الطبيعية المادية، لتشير بوضوح إلى الخالق العليم الحكيم. 


تعليقات