كتاب نظرية ابن تيمية فى البيضة و الدجاجة (2)



الوقفة الرابعة :
زعم الكاتب أن ابن تيمية يرى أن المثالية لا تتسع لمقالات الإيمان الصحيح أما المادية فقد تكون ملحدة إذا اقتصرت على الدنيا وقد تكون مؤمنة إذا امتد أساسها المعرفى لإثبات ما فى الدنيا والآخرة.
والحقيقة أن أسس المادية لا يمكن أن تمتد إلى الآخرة لأنها تحصر الوجود فيما يمكننا الإحساس بها بتجربة مباشرة أو غير مباشرة و التجربة الغير مباشرة ليست مجرد خبر الصادق كما حاول الكاتب تمرير هذا الوهم للقارىء و إنما يجب أن تتوافر قابلية التكرار فى أى تجربة و قابلية التكرار محصورة فى هذه الدنيا وهذه الظواهر الطبيعية المادية فقط و لو قبل المادى خبر الصادق المجرد بدون إمكانية تكرار التجربة فقد تنازل بذلك عن ماديته التى حصرت سبب المعرفة فى الحواس لأنه لا توجد تجربة تثبت صدق أحد ولا تجربة تثبت وقوف هذا الصادق على حقيقة ما يخبر به وانتفاء الوهم عنه. فرغم أن الكاتب ذكر قابلية التكرار على استحياء إلا أن زعمه إمكانية تطبيق الأسس المعرفية المادية على الغيبيات وكذلك الأمثلة التى ضربها على التجربة غير المباشرة من سماع موسي عليه السلام لكلام الله ونحو ذلك، فيها تجاهل تام لشرط قابلية التكرار. 

الوقفة الخامسة :
 زعم الكاتب أن سبب الإلحاد هو عدم عقلانية الخطاب المسيحى الذى امتزج بالمثالية و دعا الناس إلى إله مجرد غير قابل للحس-وبغض النظر عن كون ذلك وهم فالمسيحية فى الحقيقة غارقة فى التجسيم الوثنى وقد جعلت لله ابن بشرى أو جعلت الإله نفسه متجسدا فى عيسي عليه السلام- فمن المعروف أن الأديان الإبراهيمية جميعا تدعوا إلى إله متعين فى الخارج يحب ويكره ويغضب ويخلق ويحيى ويميت و من المعروف أيضا أن جميع الملاحدة يرفضون الإله الشخصي personal god وقد يقبلون وحدة الوجود و يعتبرون أن الله هو نفسه الكون و قوانين الطبيعة لكنهم لا يقبلون بالإله الشخصي المتعين الذى يراقبهم و يحاسبهم ويتحكم فى مصيرهم و الذى خلق الكون و بث فيه آياته ليختبرهم و الذى دعاهم وأرسل لهم الرسل. إذن فمشكلة الإلحاد ليست أبدا مع المثالية والحل السحرى الذى يطرحه الكاتب لمواجهة الإلحاد ببيان أن الله متعين فى الخارج ليس بالشيء الخفى على الملاحدة ولم يكن يوما مشكلة الإلحاد الحقيقية. 
بل إن استخدام الأسس المادية فى محاربة الإلحاد تصلح فقط لأن تكون طريقة للسخرية من الأديان كما فعل الفيزيائي بوبي هندرسن الذى اخترع ديانة تهكمية تدعى Pastafarianism يكون الإله فيها عبارة عن وحش سيباغتى طائر متعين فى الخارج وقابل للحس لكنه أخفى نفسه فى هذه الحياة فلا يمكننا الوصول له عن طريق أى وسيلة حسية أو تجريبية. فهو هنا ينطلق من أسس المادية التى لا تعترف إلا بالوجود المحسوس ثم يسخر من ادعاء وجود إله قابل للحس لكنه حس مع إيقاف التنفيذ فى هذه الدنيا. 

الوقفة السادسة :
قوله أن ابن تيمية لم يستدل على حدوث الأشياء وانما استدل بحدوثها حيث قال (وحدوث الأعيان مشهود معلوم لا يحتاج أن يستدل على حدوثها بحدوث صفاتها) 
صحيح أن طريقة المتكلمين لإثبات حدوث الجواهر بحدوث الأعراض كانت خطأ بل اختراعهم لفكرة الأعراض والجواهر نفسها كانت هراء بل وحتى ديموقريطس الذى ادعى أن العالم مكون من ذرات صغيرة كان يخرف ولو توافق كلامه مع شيء علمى حديث فهى مجرد صدفة سعيدة ليس إلا لأن التعرف على الطبيعة و خواصها بالتفلسف والفكر المجرد هو خطأ علمى ومنطقي حتى لو تشابهت نتائجه مع الواقع. 
ولذلك فابن تيمية كان مصيبا حين أنكر طرق المتكلمين هذه. و دليل الافتقار السببي الذى استشفه من القرآن صحيح وهو ما نستخدمه اليوم ضد الملاحدة لكن القرآن ذكر أصل البرهان و محوره ولم يذكر خطواته لأن الخطوات لا يمكن أن تكون ثابتة فهى تتغير وفقا لما يسلم/لا يسلم به الخصم ولذلك لا ينبغى القول بأننا يجب أن نبدأ من كذا وليس كذا لأن الأمر متغير وفقا للجدل القائم. 
ولو كان الفلاسفة و المتكلمين يخترعون مادة وصورة وجواهر وأعراض ما أنزل الله بها من سلطان و كان يمكننا حينها أن نقول لهم حدوث الأعيان ضرورة حسية مشاهدة ونكون مصيبين فى ذلك فاليوم لن يسلم لك الملحد بأن هناك حوادث لمجرد أن هناك أعيان تستبدل بأعيان أخرى. 
وإنما سيطلب التعريف العلمى للحدوث ولم يعد ممكنا القول بأن الحدوث هو استحداث مادة شيء من عدم بعدما فنيت مادة أصله وتلاشت لأن هذا غير صحيح علميا الآن حيث أنه ليس كل ما نشاهده من تحول الأعيان فيه فناء تام لمادة أحدها و استحداث لأخرى من عدم لكن يمكن القول بأن هناك فناء لشيء و استحداث لآخر فقط إذا اعتبرنا القوانين الفيزيائية شروطا مسبقة للوجود. 
فالصواب أن التغير وفقا لشروط مسبقة هو معيار الافتقار السببي و الحدوث و الظواهر الطبيعية التى أشار إليها القرآن والتى فيها تحول من جنس لآخر هى التى تبرز معيار الافتقار السببي هذا لكن بدون توضيح هذا المعيار لن يسلم لك الملحد بحدوث شيء أو وجوده بعد عدمه والبداية بهذه الخطوة لن تثبت الحدوث فقط بل تثبت أن الكون أو الطبيعة لا يمكن أن تكون علة كافية لنفسها لأن المعيار يشمل كل ما هو محكوم بقوانين الفيزياء وهذه هى النقطة الفاصلة فى الجدل مع الملحد لإثبات قائم بنفسه خلق الطبيعة. 
ولذلك لا يصح الإنكار على من يبدأ بإثبات حدوث الكون أو شيء منه أو يبين أن ضابط الحدوث هو الافتقار السببي. 

الوقفة السابعة :
جزء العقل والروح كان بائسا جدا فالكاتب لا يملك رصيدا علميا يسمح له بالمناورة كما فعل الدحيح مثلا فى محاولاته لتفسير الوعى ماديا وجعله منتجا للدماغ. 
ولم يجد لابن تيمية أى نص يفيد غرضه فاكتفى بنصوص عامة - لا علاقة لها بمحل النزاع - تثبت ارتباط الوعى بالدماغ وهذا لا ينكره أحد. 
ولا يخفى على عاقل شناعة القول بأن العقل منتج طبيعي للدماغ وهذا تجميع لمقالاتى التى ناقشت فيها الدحيح وغيره حول إمكانية تفسير الوعى ماديا لمن أراد الاستزادة 

https://www.mediafire.com/download/5zmpfwlw61a9c9z

الوقفة الثامنة:
زعم الكاتب أن إنكار إمكانية التأسيس لمنظومة أخلاقية خارج الدين هى نفى التحسين والتقبيح العقلى وهى كذلك مثالية ميتافيزيقة وحكمه هذا غير مستغرب فالرجل عنده هوس بالتفكير النمطى الذى يقسم كل شيء إلى مادى و مثالى.
لكن الصواب أنه بدون الإيمان بالله واليوم الآخر لا يمكن أن يوجد مرجع أخلاقي صحيح وهذا يقر به أغلب الملاحدة رغم أننا لا نقول أن الخير أصبح خيرا لأن الله أمر به ولكن بدون خالق ستسقط كل قيمة أخلاقية ممكنة. لماذا؟ 
لأنه فى المادية لا يمكن أن تكون مرجعية الأخلاق موضوعية حيث أن قوانين الطبيعة فقط هى الشيء الموضوعي المستقل في وجودها عنا و التي نكتشفها و لا نخترعها.

وكذلك لا يمكن أن تكون مرجعية الأخلاق ذاتية لأننا نحن مرجع الأشياء الذاتية و المتحكمين بها فلا يمكن أن تكون هي مرجعنا فهي مثل قوانين المرور التي يمكننا تغييرها و تعديلها متى و كيفما شئنا. أو مثل الأصنام لا تصلح أن تكون آلهة لأنها من صنعنا.

و لا يمكن أن تكون معنى مجرد صحيح منطقيا علينا اتباعه، لأنه وفقا للمنطق الدارويني الذي يفترض أنه الحاكم للكائنات الحية بما فيهم الإنسان، يكون التصرف العقلاني هو الذي يحقق أعلى مكاسب لصاحبه و هذه النفعية البراجماتية تقلب الأخلاق رأسا على عقب و تجعل كل التصرفات الأخلاقية ساذجة و غير صالحة للبقاء و يكون التصرف الأناني المخادع هو التصرف العقلاني (حتى إنه ليسمى "عقلانيا" في النماذج الرياضية لنظرية اللعبة ) 
أما في الفكر الديني فمرجعية الأخلاق موضوعية و هي صحيحة منطقيا لأن الفرق بين الكمال و النقص و الخير و الشر صحيح دائما و الكمال المطلق متحقق أزلا و أبدا بوجود الله.
ثم من الصواب عقلا و منطقا اتباع الخير و الأخلاق لأن هناك جزاء أبدى مطلق يتناسب مع طبيعة الأخلاق المطلقة سوف يتحقق يوم القيامة و توضع الموازين بالقسط. فبدون الإيمان بالله و يوم الدين لن يكون من الصحيح منطقيا أن تكون على خلق و لا أن ترحم اليتيم و تطعم المسكين.

قال تعالي( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)

تعليقات