الأربعاء، 15 يوليو 2020

كتاب نظرية ابن تيمية فى البيضة و الدجاجة... (1)




تخيل أن يقول لك أحدهم لن تحصل أى معرفة حتى تجيب على هذا السؤال.. أيهما جاء أولا البيضة أم الدجاجة ؟
لحظة أرجوك... لا تتسرع فسوف تحدد إجابتك هذه منظومتك الفكرية بأسرها و سوف تلتزم بها فى كل معارفك و إلا وقعت فى التخبط و التناقض فهذا هو السؤال المركزى فى الفكر البشرى و الذى صاغ عقول و أفكار البشرية!! 

نعم لا تتعجب فقد خرج علينا مؤخرا من عبق القرون الوسطى من مازال مأسورا داخل ثنائية مادى-مثالى و يظن أن الفلسفة هى البوابة الكبرى للمعارف والعلوم  و أن السؤال المركزى فى الفلسفة كان وسيظل .. أيهما الأسبق المادة أم الفكر ؟
ومن حاول أن يتهرب من الجواب أو حتى يجيب كل جزئية حسب ما اقتضاه الدليل فيجعل المادة أسبق فى بعض الأمور و الفكر أسبق فى أمور أخرى فهذا لاأدري أو ثنائي متخبط لا يملك منظومة فكرية متسقة و بالتالى فهو لم يملك المعرفة .
فلو كنت ممن يقولون (اقلب القدرة على فمها تطلع البت لأمها ) فأنت مادى لأن قلب القدرة على فهما سبق عندك تشابه أفكار وطباع البت لأمها و بالتالى فأنت على جادة الطريق. 
و أما إن كنت ممن يقولون (القرد فى عين أمه غزال ) فأنت مثالى (عياذا بالله) لأن صورة ابنك الغزالية متعلقة بوعيك الذاتى و ليست متعلقة بالواقع الموضوعى لهذا القرد. 
أما إن كنت تعتقد بصحة المثلين جميعا فأنت على خطر عظيم لأنك ثنائي أو لاأدري غارق فى التناقض الذاتى و قد انهارت منظومتك الفكرية و المعرفية من حيث لاتدرى.
هذه ليست سخرية من الكاتب أو طعنا فى شخصه لكن فقط لتوضيح الأمور ووضعها فى نصابها و إعطاء الموضوع حجمه الحقيقي الذى يستحقه. 

مشكلة الفلسفة أنها لا تمتلك حدود و معايير واضحة بخلاف العلوم الشرعية و التجريبية التى تمتلك معاييرها الصارمة وحدودها وأطرها الواضحة. 

فمن العجيب أن تظن أن البارعين فى العلوم الشرعية أو التجريبية يفتقر إنتاجهم إلى انتماء لإحدى المدارس الفلسفية القديمة المتهالكة لكى ينضبط و يستقيم.

فشيخ الإسلام ابن تيمية لا يحتاج إلى نظرية فلسفية مزعومة له لكى يكون لإنتاجه قيمة معرفية. 
لكنها مماحكة بتصدير اسم أحد الأعلام لتمرير أطروحات شخصية.

ما قرأته من صفحات كتاب الأخ يوسف سمرين حتى الآن كان كله مكرسا للانتصار لكل ما هو مادى بشكل فج و بدون حتى أن  يكلف الكاتب نفسه عبء المحاججة و استعراض الأدلة و البراهين لتفكر فيها، فهو يحثك مباشرة على الاعتقاد بصحة الفكر المادى لمجرد أنه ألصقه باسم ابن تيمية. 
فهو أشبه بكتاب وعظى يرغبك فى المادية من خلال سرد مدائح الماديين لها و يرهبك من مخالفتها
 بإلصاق التهم لكل معارض بأنه مثالى مستتر أو متأثر بالمثالية من حيث لا يدرى.

ولو كان ينسب هذه الأطروحة لنفسه لهان الأمر لكنه ينسبها لأحد أهم محققى مذهب السلف فى العقائد و هو شيخ الإسلام ابن تيمية ولذلك وجب الرد على مزاعمه. 

الوقفة الأولى مع الكتاب:
 حول تعليق  ابن تيمية على مناظرة السمنية لجهم و الخروج من ذلك بأن ابن تيمية وافق الفلسفة المادية فى إنكار وجود كل ما لا يمكن الاحساس به وساق فى ذلك هذه النصوص:
( فإن أهل السنة والجماعة المقرين بأن الله تعالى يرى متفقون على أن مالا يمكن معرفته بشيء من الحواس فإنما يكون معدوما لا موجودا) 
(وهنا طريقة أخرى وهي أن نقول كل موجود فالله قادر على أن يجعلنا نحسه بأحد الحواس الخمس وما لا يكون ممكن إحساسه باحدى الحواس الخمس فإنه معدوم وهذه الطريقة مما بين الأئمة أن جهما يقول بأن الله معدوم لما زعم أنه لا يحس بشيء من الحواس لأن الموجود لابد أن يمكن إحساسه باحدى الحواس )انتهى. 

و ابن تيمية لا يؤصل هنا لقضية أن الرصد التجريبي هو الباب الوحيد لإثبات وجود "أى شيء" كما تدعى العلموية أو المادية العلمية التى ترد الغيبيات جملة وتفصيلا و إنما هو ينتقد الأصل الباطل الذى دفع جهم إلى إنكار الصفات و جعله الله مثل المعانى المجردة فالسياق جدلى وليس تأسيسي.

 كما أن ابن تيمية  لا يقصد هنا التسوية بين ماهية الغيب و الشهادة ولا يجعل شرط التصديق بوجود الغيبيات أن تكون ماهيتها مماثلة لماهية عالمنا المادى الفيزيائي و إنما الأصل فى التعامل مع الغيبيات جميعا هو إثبات المعنى المفهوم من غير تشبيه أو تمثيل فى الكيفية أو الماهية.

فهو لم يصحح إلحاد السمنية وحصرهم للوجود فيما تصل إليه حواسهم فى هذه الدنيا و قال عنهم فى درء التعارض :

 (بل لا يثبتون إلا ما هو محسوس للناس في الدنيا
وهؤلاء كالمعطلة الدهرية الطبائعية من فلاسفة اليونان ونحوهم الذين ينكرون سوى هذا الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه وهو وجود الأفلاك وما فيها ) 

وهذا نفس ما ننكره اليوم على المادية العلمية من حصر المعرفة في هذا الواقع الفيزيائي فقط و ما تصل إليه أدواتنا التجريبية. 

وما أنكره أحمد ابن جنبل و ابن تيمية على جهم أنه تبع الفلاسفة من تقسيم الغيب و الشهادة إلى معقولات مجردة و محسوسات كما يقول فى درء التعارض:

(فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من احتجاج جهم على السمنية الطبيعية بإثبات موجود عقلي هو كحجة المشائين على الطبيعية وما في قوله من الحلول الذي ضاهى به النصارى من جنس كلام الحلولية)

وقال كذلك (فليس الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس والمعقول ) 

فالصواب أننا لسنا مثاليين نعتقد بهراء المثل و ما شابهها و لسنا كذلك ماديين علمويين نؤمن فقط بهذا الواقع الفيزيائي الذى يمكننا تحسسه فى هذه الحياة الدنيا. 

ثم إن قاعدة "ما لا يمكن الاحساس به فهو معدوم"   ليست لابن تيمية لكى يقال أن هذه هى النظرية المعرفية لابن تيمية و إنما هى من استدلالات الأشاعرة العقلية على تجويز رؤية الله باعتبار أن الرؤية متعلقة بالوجود.

ولابن تيمية توضيح يبين فيه أن مقصوده بالحس واسع يشمل هذه الحواس  المعروفة الظاهرة و الباطنة للبدن و يشمل كذلك حواس الروح وهذا كاف فى بيان أنه لا يقصد بالحس ما يقصده الماديون من حصر المعرفة الوجودية تحت مظلة الحواس الخمس وحصر الوجود فى الواقع الفيزيائي المشاهد فقط. 
لأن الروح تنتمى إلى عالم الغيب الذى تختلف كيفيته و ماهيته تماما عن عالمنا المادى المحكوم بقوانين الفيزياء ولذلك ينكر الماديون وجود الروح رأسا.

يقول ابن تيمية فى درء التعارض :
(فمن علم أن الروح قد تحس بما لا يحس به البدن وأن من الناس من يحس بروحه وبدنه ما لا يحسه غيره من الناس توسع له طرق الحس ولم يرى الحس مقصورا على ما يحبه جمهور الناس في الدنيا بهذا البدن فإن هذا الحس غنما يدرك بعض الموجودات وحينئذ فإذا قيل : إن كل قائم بنفسه أو كل موجود يمكن الإحساس به فإنه يراد بذلك ما هو أعم من هذا الحس بحيث يدخل في ذلك هذا وهذا وليس للنفاة دليل على إثبات ما ليس بمحسوس بهذا الحس والعقليات التي يثبتونها إنما هي الكليات الثابتة في الذهن وتلك في الحقيقة وجودها في الأذهان لا في الأعيان)

و لو توسعنا أكثر سنجد أن حواس الانسان ليست 5 بل العلماء يتحدثون اليوم عن 9 حواس على أقل تقدير و منهم من يرفعها ل20 حاسة. 
https://www.discovermagazine.com/mind/you-know-the-five-human-senses-heres-four-you-dont
ولو أضفنا حواس الحيوانات الضعيفة فينا أو الغير متواجدة مثل تحديد المواقع بالموجات فوق الصوتية و استشعار المجال المغناطيسي للأرض و استشعار التيارات الكهربية و غيرها من الحواس لعلمنا أن هناك سبل كثيرة ممكنة لاستشعار الموجودات غير الحواس الخمس فلا معنى لحصر الطرق المعرفة بكيف أو كم حسي محدد.

ثم إن  كل هذه الحواس تتعامل مع القوة الكهرومغناطيسية فقط فالبصر رصد لفوتونات منبعثة أو منعكسة من المجال الكهروماغناطيسي للمحسوس و اللمس كذلك رصد للإلكترونات الصادرة عن المحسوس ونفس الشيء ينطبق على باقى الحواس وكل هذا ضمن قوة واحدة من القوى الأربعة للكون و لذلك فالمادة المظلمة dark matter التى تشكل معظم الكون لا يمكن الاحساس بها أبدا لأنها لا تتفاعل مع الكهروماغناطيسية ولا حتى النووية القوية ولا الضعيفة و إنما تتفاعل فقط مع الجاذبية فنرصد تشويهها للزمكان ولا يمكننا رؤيتها ولا لمسها ولا تذوقها ولا شمها ولا سمعها ولا حتى رصدها بأى وسيلة علمية تجريبية مباشرة ممكنة ومع ذلك فوجودها ثابت علميا وهذا يرد به على من حصر العلم فى الرصد التجريبي المباشر أو من حصر الوجود فى ما ترصده حواسنا و نفى إمكانية الاستدلال على وجود الشيء بأثره.

فالصحيح أن اثبات وجود شيء متعلق بوجود دليل صحيح وليس متعلقا بالطريقة التى نكتشفه بها.

كما أن البديهيات و الحقائق الرياضية وإن كانت ليست أشياء وجودية إلا أنها حقائق ثابتة لا يمكن التشكيك فيها رغم أنه لا يمكن إثبات صحتها و شموليتها عن طريق التجربة و الحس .
 
الوقفة الثانية :
تبشير المؤلف بالمذهب المادى المظلوم الذى لم يفهم حقيقته أحد سواه هو و من ينقل عنهم من الماركسيين الملاحدة و سعيه لفصل المادية عن الوضعية و العلموية و التجريبية وغيرهم  (و هذه هى الصور المعاصرة للفكر المادى فى حقيقة الأمر)  فالمادية عند الكاتب منزهه عن كل هذا و هى العاصمة من القواصم  و عند حضور النقد يتترس بأن النقاد لم يفهموا أو كانوا مثاليين  أشرار و إذا جاء وقت التعريفات قال لك المادية ليست سوى اعتقاد أن العالم له وجود خارج الذهن فقط لا غير على طريقة النصارى حين يعرفون لك دينهم بأن الله محبة فيسوق لك صورة دعائية براقة لا تعبر عن حقيقة المحتوى مع احتكاره لمعنى عام بغير مسوغ فكل العقلاء يسعهم الاعتقاد بأن للعالم وجود موضوعى بدون أن يكونوا ماديين كما أن محبة الله تتحصل لكل من اتبع الحق و ليس من تنصر.
فالواقع أنه ليس كل من حارب المادية يكون مثاليا فالمثالية التى تنفى الوجود الخارجى الموضوعي للأشياء أو التى تجعل للإفكار وجودا خارجيا مستقلا هى جنون ظاهر البطلان لكننا لا نحاربها لأن تواجدها المعاصر فى التيارات اللادينية قليل والأغلبية الساحة من الماديين الذين يحصرون الوجود في الواقع الفيزيائي الذى يمكن التعامل معه بأدواتنا التجريبية و هذا نفى للدين و الغيبيات و لذلك كان الواجب على كل مسلم عاقل محاربة المادية فلسنا ماديين ولا مثاليين.

الوقفة الثالثة:
تبنى بعدية المعرفة بدون إقامة دليل الصحة على ذلك ولا معالجة الأدلة المضادة مع الاكتفاء بزعم أن هذا هو قول ابن تيمية رغم وجود نصوص صريحة لابن تيمية تثبت القبليات وبصرف النظر عن حقيقة موقف ابن تيمية فى المسألة فهذه قضية منطقية يكون الفصل فيها للحجة العقلية المستقيمة  فلو كنت حقا تنقل لنا نظرية ابن تيمية المعرفية لكان الواجب عليك البحث عن أدلة ابن تيمية التى تنصر البعدية و تبين بعد ذلك تماسكها أو عدم تماسكها أمام محاولات النقد. 
لكننا للأسف لسنا أمام طرح علمى و إنما أمام طرح شخصى ضعيف متترس خلف اسم عالم كبير لأغراض تمويهية

ولا أحتاج هنا لإعادة الكلام فى موضوع بعدية المعرفة لأنه لا جديد.. وهذه مقالات سابقة فى نقد هذه التصورات لمن فاتته
http://abozaralghifari.blogspot.com/2018/06/blog-post_21.html
http://abozaralghifari.blogspot.com/2019/10/2.html

يتبع .... 

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

Translate