الاستقراء بدون سببية مستحيل... و أما السببية فصحيحة بدون استقراء صحيح أو كامل

1-الاستقراء بدون سببية مستحيل
لأن العقل لو نزعنا منه البديهيات فسوف يجوز  الترجيح بدون مرجح و  إجتماع النقيضين و أنى له بعد ذلك أن يخطو خطوة معرفية واحدة حتى لو جمعت له كل البيانات الحسية التجريبية التى عند البشرية.
فلو رصد أن هذا الشيء مثل ذاك الشيء فلماذا يحكم بأنهما متماثلان لوجود مرجح حسي رصده إذا كان يمكنه ترجيح أنهما غير متماثلين أيضا لأن الترجيح بلا مرجح صحيح عنده؟
و ماذا يعنى أن يحكم بالتماثل إذا كان التماثل يعنى عدم التماثل أصلا و لا شىء يمكن أن يفصل بين الحكمين لأن أعلى درجات الفصل هى التناقض و هو يجوز اجتماع النقيضين؟

فالأمر ممتنع لأن الاستقراء و كل العمليات العقلية المنطقية مستندة إلي البديهيات (بما في ذلك الشك المطلق كما بينت في موضوع اللاأدري حين يأوي إلى ركنه الشديد) و تلك البديهيات ضرورية لا يمكن افتراض نقيضها أو الاستغناء عنها في بناء أي معرفة و هي أيضا مرتبطة فلا يمكن تصور أحدها منفصلا عن الآخر فمبدأ الهوية  يكون بأن الشيء هو نفسه لكن كيف يكون هو نفسه إلا إذا لم يكن غيره و هذا مبدأ عدم التناقض و لكن قبل أن يكون نفسه أو غيره يجب أن يكون هناك سمات و خصائص و حدود تميز الأشياء و تعجز تلك الأشياء عن تجاوزها و بالتالي فهي مفتقرة بنفسها لما أوقفها عند تلك الحدود و هذه هي السببية لكن تميزها عن ماذا و بماذا إذا لم تكن السمة هي نفسها... و هكذا عندنا لمبدأ الهوية. فلا استقراء و لا استنباط في ظل غياب أي بديهة و لا يمكن كذلك فصل البديهيات عن بعضها رغم اختلاف معانيهم.

2-السببية و الاستدلال بها علي وجود الله صحيح بدون الحاجة إلى استقراء صحيح أو كامل للكون.

و هنا أنقل جزء من نقدى لكتاب شون كارول تناولت فيه نفس القضية:

و أما السيناريوهات التشكيكية التي طرحت كلها بلا استثناء فهي سيناريوهات للتشكيك في الاستقراء و ليس في البديهيات. فبولتزمان ينطلق من الإقرار بالبديهيات و بمعرفة بعض القوانين الفيزيائية أيضا مثل القانون الثاني للديناميكا الحرارية. و ديكارت ينطلق من إمكانية وجود خدعة محكمة في البيانات الواردة لنا من الواقع الخارجي و هذا يستند على وجود صواب و خطأ و عالم خارجي و وجود ذاتي و أسباب للتعلم و مساحة يمكن خداعنا فيها لفقد تلك الأسباب  و لذلك يبقى هناك يقين بالسببية و إمكانية للاستدلال بها على الخالق  عند أي عقل قادر على أدنى قدر من التفكير حتى لو فرضنا جدلا أن كل البيانات المنقولة له عن نفسه و العالم من حوله كانت خاطئة.
لأن إمكانية خداعه نفسها تفعل بديهية السببية فلو لم يكن هناك سببية لما أمكن خداعه و لما أمكن وجود التفكير و لما أمكن كذلك العلم أو الجهل بشيء.

و لذلك يمكن لأي إنسان عاقل اليقين في وجود الله بمجرد إدراكه لأي شيء و هذا يوضح الفرق الكبير بين حاجتنا الاستقرائية للتعلم عن العالم و التأكد من صحة الفروض حوله و بين تفعيل البديهيات بمجرد البدأ في التفكير .
و نقول لهذا العقل المعلق في حوض و موصل له بيانات خاطئة عن نفسه و عن العالم.
حسنا فليخدعك من وضعك في هذا الحوض كما شاء. ولتشك في كل هذه المعلومات الاستقرائية التي وصلتك . لكنك بعد كل هذا لا يمكنك أن تشك في أنك (ذات) جاهلة محتاجة إلى الاستقراء لكي تتعلم عن نفسك و عن العالم.
فهذه الحقيقة لا يمكن أن تشك فيها لأنك لو كنت عالماً بذاتك مستغنياً عن التعلم لتعرف ماهيتك؛ لما كان هناك مساحة للشك عندك، ولما كان هناك مساحة ممكنة لخداعك، ولما كان الجهل ممكناً في حقك في أي لحظة، فكل شيء سيكون يقينياً معلوماً بالنسبة لك، وهذا أمر مرتبط بذاتك ملازم لها غير مُكتسب، فلا يتصور وجودك بدون تلك المعرفة.
فضلا عن أنه لو لم يكن هناك سببية لما كان ممكنا أصلا وجود هذا العقل المعلق أو الحوض أو الخادع أو المخدوع أو أي شيء له خصائص محددة لا يتجاوزها لأنه سيكون من المستحيل انتظام أي قانون كما بيننا.
إذاً أنت الآن لديك:
1-معلومة يقينية بأن الناقص يحتاج إلى الأسباب و المحتاج إلى الأسباب ناقص.
2-معلومة يقينية بأنك ذات ناقصة محتاجة في وجودها للأسباب و هذا يترتب عليه تفعيل السببية و العلم بقيامها.
3-قيام السلسلة السببية بذاتها مستحيل بموجب تعريف السببية نفسه و يلزم من ذلك أن يكون هناك قائم بنفسه واحد قهار أقامها.

وبذلك يمكن لك أن توقن بوجود الخالق في الوقت نفسه الذي يملؤك الشك في كل ما تنقله لك حواسك عن نفسك وعن العالم الخارجي.

فلو كنت موقنا بأن الطريقة العلمية هي أفضل الطرق للتعلم عن العالم من حولنا أو كنت موقنا بأي شيء آخر مهما كان (حتى لو كان هذا الشيء هو أنك توقن بجهلك التام الذي يجعلك تشكك في كل ما تعرفه عن نفسك و  عن العالم )   فالله أولي بأن توقن في وجوده .

قال تعالي (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ

تعليقات