الخميس، 6 يوليو 2023

الرجل الذي لا يعرف أنه من جماعة الأرض المسطحة


الأستاذ الفاضل أبو الفداء بن مسعود كأنه نظر إلى قضية الأرض المسطحة فأعجب بمنهجها جدا وقرر أن يطرد أصولها لتشمل سائر العلوم التجريبية ثم احترز لنفسه فبادر بإثبات كروية الأرض. 

الرجل خرج علينا في كتابه معيار النظر بنتيجة مفادها أن معظم العلم الحديث خرافة ولم يجز منه إلا إطارا ضيقا كأن يخبرنا أن التفاحة التي سقطت قد سقطت والسماء بها شمس وقمر ونجوم ثم عليه أن يصمت فيما بعد ذلك لا أن يأتي أحدهم فيعتمد على استقراء جاذبية الأرض للتفاحة ليبني قانونا طبيعيا لجاذبية الارض للقمر والنيازك ثم يطرد ذلك على جاذبية الشمس للأرض والنجوم لكواكبها والثقوب السوداء لما حولها وهلما جرا.

  لأن كل من تسول له نفسه أن يتجاوز إطار المشاهدة الحسية والعادة المتكررة في محيط الخبرة البشرية البسيطة فقد انساق بذلك خلف فلسفات ميتافيزيقية دهرية إلحادية طبيعانية.

 بل إن آيات القرآن تذكرنا فقط بما نعلمه والرجل ينصب تحدي لمن يأتيه بآية تخبرنا بشيء واحد لم يكن معلوم في البيئة التي نزل فيها القرآن أو أن الله أخبرنا أنه سيكشف لنا الجديد وكأنه لم يمر من قبل على هذه آية (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).

 وما عليه قول المحققين أن احتكار المعني القرآني لا ينبغي لأحد كائن من كان ما دام المعني يتوافق مع أصول الشرع والسياق اللغوي فلا يمكن استبعاده إلا بدليل أما مجرد خفاء تلك العلوم على السابقين فليس بدليل على شيء.

الكارثة أنه يتحدث بلسان أهل السنة والجماعة وكأن ما يسوقه من تصوراته الخاصة هي نصوص صريحة في الكتاب والسنة يجب الإيمان بها ثم يصب اتهامات الجهل والإلحاد والتجهم على كل من خالفه.

فقد جعل ما تحت الطبقة الأولى من الأرض غيبا لا يمكن الوصول إلى معرفته بحال وكذلك ما بعد الجزء المنظور لنا من السماء بأعيننا المجردة (وليس بالتلسكوبات الحديثة) هو من الغيب المطلق.

كما أنه لا يمكن معرفة الغيب البعيد في الزمان ولا يمكن معرفة الأحداث الفريدة أو البعيدة التي ليس لها نظير مشاهد في حواسنا وخبرتنا ولا أي حدث من أحداث التخليق

لماذا يا رجل؟

لأن هذا هو مقتضى الاستقراء الصحيح عنده. وإلا فما يدرينا أن الظواهر ستتكرر بنفس النمط والوتيرة هناك. (هكذا يتساءل هو)

لكن هذا الاستقراء الذي يقصده لا يعدو أن يكون مشاهدة حسية حياتية وليست علوما مكونة من فرضيات ونماذج رياضية وتجارب.

 بل لماذا تتحكم وتقبل عمل القوانين بالتكرار في الحدود القريبة؟

 فلا ضمانة للقريبة كما أنه لا ضمانة للبعيدة وما دمت لم تستقرئ من قبل البناية المجاورة لك فقد يكون جيرانك يمشون هناك على السقف والأشياء تسقط لأعلى.

بالطبع هذا جنون لا يأخذه أحد على محمل الجد.

لكن ماذا عن المعادلات الرياضية الصحيحة يا سيدنا؟

يقول لك هذه يمكن إعادة صياغتها لتتوافق مع النتائج في كل مرة.

لكن ماذا تقول في المشاهدات والتجارب؟

يقول لك هذه هينة يمكن تأويلها لتتوافق مع النموذج الرياضي في كل مرة.

حسنا إنها مؤامرة إذن!

 لا...

فهو لا يقول بنظرية المؤامرة وإنما يستبدلها بمعتقدات فلسفية إلحادية عند العلماء وبرجماتية وعوامل سياسية واجتماعية.

يعني ليست مؤامرة؟

توء توء...

ثم هو يقبل الرواية التاريخية عن الأحداث الماضية البعيدة ولا يقبل الفحص التجريبي لآثار تلك الأحداث إن وجدت وهذا استخفاف بالعقول بلا شك.

فلو أننا أردنا أن نعلم سر أكل قدماء المصريين للفسيخ في يوم شم النسيم وأصبح متاح عندنا مصدرين مختلفين للمعلومة:

المصدر الأول هو الروايات الشعبية المتوارثة (هب حتى أنها متواترة).

والمصدر الثاني هو مجموعة آثار ورسومات وتماثيل تحكي بداية قصة أكل الفسيخ.

 فعلينا أن نأخذ بالمصدر الأول ونضرب عرض الحائط بالمصدر الثاني وفقا لمعيار صاحبنا.

وهو طبعا لم يقبل بأن الأرض مسطحة احتراما للعلوم لا سمح الله وإنما غاية الأمر أن هناك إجماع نقله ابن تيمية عن علماء المسلمين يثبت كروية الأرض (ولعله ظن أن الإجماع منقول عن الصحابة وهو ليس كذلك) وهنا توقفت ماكينة الشك عنده التي أنكرت علوم الكوكب كله.

لكن في المقابل فقد أنكر طبقات الأرض الجيولوجية لأنها غيب لا يمكن الوصول إلى معرفة ما فيها إذ أن جهنم في باطنها وليس الحديد والنيكل الذي يزعمه الدهرية.

لكن القبر أيضا يكون فيه فتحة تطل على جهنم وفتحة تطل على الجنة وملائكة يقعدون الميت ويسألونه وألوان من العذاب والنعيم ومع كل هذه الغيبيات التي توجب وفق منهجك أن تجعل "مكان" القبور من الغيب المطلق الذي لا يمكن الوصول إليه حسيا أو تجريبيا إلا أنك صدقت الحانوتية من الجهمية المعاصرة الذين زعموا زورا وبهتانا أنهم يمكنهم فتح القبور وقتما أرادوا بدون أن يمنعهم شيء أو ينكشف لهم شيء من هذا غيب فكيف لمثلك أن يسقط تلك السقطة الشنيعة؟!

ثم كان ينبغي عليك أيضا أن ترفض موضوع كروية الأرض وكذلك الأرصاد الجوية ومعرفة نوع الجنين لأن هذا يتماشى مع منهجك إلا إذا كانت لوثة الطبيعية الدهرية قد تسربت إليك أنت أيضا فصدقت ما يروجه جهمية العصر من خرافات حين يقولون إن الأطباء يمكنهم رؤية الجنين في بطن أمه وهذا غيب مطلق بظاهر الآيات فضلا عن أنه اشهاد من الله لخلق أنفسنا فلا شك في امتناع وقوع ذلك وفقا لقواعدك.

حقا من أين أتيت بمثل هذه القواعد وجعلتها مقياس لحدود علم الإنسان الممكنة التي لا يبقي خلفها إلا الخرافات الدهرية بل وجعلت ذلك معتقد أهل السنة بكل ثقة؟

وليس ذلك فحسب بل هو ينكر أيضا دوران الأرض حول نفسها أو حول الشمس واعتبر دراسة الفلك درب من دروب التنجيم والكهانة لأن كلامهما نظر في النجوم وقد جاء النهى عن ذلك.

 كما أن الشمس ليست كبيرة كما يزعمون ولا النجوم بعيدة كذلك.

هو أيضا لا يسلم أن تحريك الرياح للسحاب يمكن تفسيره سببيا بل هذه سببية زائفة ويمكن عزو الترابط المشاهد إلى الاقتران على طريقة هيوم في حين أن السبب الحقيقي من الغيب المحض الذي لا يمكن الوصول إليه ومن يحاول ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إذ تلبس بالنحلة الطبيعانية الدهرية, في حين أنه يسلم بأن حمل الرياح لأوراق الشجر يعد سببا تاما.

 والرجل في العموم يضعف القانون الطبيعي كلما ابتعدت الظاهرة عنا في المكان والزمان إلى أن ينعدم خلف هذا الأفق المشاهد عندنا بالعين المجردة لكن تحريك الرياح للسحاب وإن كان داخل في الحدود التي قبل ضمنها الرجل بعمل القانون الطبيعي إجمالا إلا أنه يتعارض في نظره مع حديث "الرعد ملك" وهو حديث غير صحيح مما نقله ابن عباس عن بني اسرائيل (1).

والرجل يظن أنه حديث حسن (أي أنه في رتبة بين الصحيح والضعيف)

وكان متوقع أن يرجع الأمر إلى القاعدة الأساسية في الشرع التي توفق بين نسبة الأحداث للأسباب الطبيعية والغيبية في نفس الوقت بدون أن يكون هناك تعارض كما فعل هو في مواضع أخرى من كتابه.

لكنه أبى هذه المرة وأوحي للقارئ أننا نستشرف أن يكون هناك تعارض لنعلن حينها أن حديث متوسط الصحة (وهو في الحقيقة من الاسرائيليات وليست من ديننا أصلا) أو حديث ضعيف بل لو كان خبرا في كتب أهل الكتاب المحرفة (كما صرح بذلك) لهو أصدق وأعلى بأضعاف مضاعفة في مراتب الأدلة من العلم التجريبي قاطبة لأن هذا الأخير ليس سوى أساطير الدهرية عنده.

 وأما النسبية العامة والخاصة فهما عنده هراء وتوصيف نيوتن وآينشتين للجاذبية محض عبث نابع من عقيدتهم الدهرية الطبيعانية.

فهو يشترط لتصحيح فرض وجود جاذبية بين الشمس والمريخ أن يكون هناك رابط محسوس مشاهد (حبل كبير ممتد بينهما مثلا) وإلا فكلها فرضيات ميتافيزيقية غيبية دهرية ولا كرامة.

 ونقده هذا للفروض الغيبية أشبه بمن ينتقد نظرية التطور لأنها مجرد نظرية وليست حقيقة علمية أو كمن يقبلها لأنها صارت حقيقة علمية بعد أن كانت نظرية, فهؤلاء جميعا لا يعرفون ما هي النظرية العلمية.

وكأن الرجل أيضا لا يعرف ما هو نسق البحث العلمي (بالرغم من أنه يدرس فلسفة العلوم في إحدى الجامعات المصرية) إذ اعتبر وجود الجانب النظري المفاهيمي المتمثل في الفروض سبب في إضعاف النظرية العلمية وزعزعة ثقتنا فيها وهذا غير صحيح لأن الفروض التفسيرية هي القيمة الإدراكية التي تعني فهمنا للظاهرة.

ولا معني لأن أفترض أن هناك جاذبية بين المريخ والشمس لو كنت أشاهد حبل محسوس يربط بينهم فهذا خلط بين دور الفرض التفسيري ودور الظاهرة المشاهدة التي نريد تفسيرها.

وأما نظرية الانفجار الكبير فهي عنده عبث والثقوب السوداء خرافة بل إن علم الفلك نفسه غير مقبول بأكمله وليس فقط آحاد النظريات الكوزمولوجية.

وأما ميكانيكا الكم فتخاريف والقانون الثاني للديناميكا الحرارية أسطورة بل والتصميم الذكي بدعة ولا يوجد فرق بين السببية والحتمية الوجودية غير عند الأشاعرة ومن تأثر بهم من جهمية العصر المقلدة للدهرية.

الرجل أيضا ينكر أن يبقي أي أثر للآيات الحسية السابقة مثل شق القمر وما شابه وكالعادة يطلق دعاوى عريضة بدون دليل عقلي أو شرعي.

فقد يبقي الأثر وقد لا يبقي لا نثبت أو ننفي بالهوى ولو بقي لأمكن دراسته تجريبيا وأركيولوجيا وقد شاهد آية شق القمر القوافل التي كانت خارج مكة من غير المخاطبين بالآية في ذلك الوقت وسجل القرآن ذلك (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ).

وبالتالي قد يكون هناك أثر آخر يشاهده بعض الناس في زمان ومكان آخر كما أن آيات العذاب بقي لها آثار ليعتبر بها غير من عاصروها مثلما ذكر الله عن قوم لوط

 (وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * وإنكم لتمرون عليهم مصبحين).

كما أنه استنتج أن لكل سماء قوانين مختلفة لا يمكن معرفتها من خلال معرفتنا بقوانين السماء الدنيا واعتبرها غيب مطلق واستشهد بهذه الآية على عقيدته هذه التي ألصقها بالسلف

(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

وهذا تأويل متكلف من جيبه لا دليل عليه فلا يوجد أي رواية عن السلف بمثل هذا المعنى بل يفهمون منها أن الله خلق في كل سماء نجومها وشموسها كما هو في سمائنا (عن قتادة {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَ} خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها).

ولا علاقة للآية بهذا الوهم فالله لم يخبرنا بحدود تلك السماوات أصلا ولم يخبرنا باختلاف أو عدم اختلاف قوانينها بل لا نعلم هل هي داخلة في كوننا المنظور أم لا.

كما أنه ينفي امكانية تكون النجوم والكواكب من الغازات والغبار الكوني وطبعا مهما تضع له روابط علمية لمشاهدات تكون النجوم والكواكب (2,3).

فسوف ينكرها لأنه لم يشاهد ذلك بعينه في فضائه القريب وسوف يعتبرها تأويلات ومعالجات دهرية للبيانات المرصودة. وبمثل هذا المنهج يمكنك أن تثبت أو تنكر أي شيء تريده.

كما أنه نفي أن يكون خلق السماوات قبل الأرض وهذا أمر خلافي (4) لا ينبغي القطع فيه بشيء فضلا عن أن تجعل المخالف فيه جهمي من مخانيث الطبيعانية.

وقد كان لي معه نقاش قديم ينكر فيه أن ارسال الرسل يعد من مقتضيات صفات الله (مثل الحكمة والعدل والرحمة والهداية) التي نعرفها بالعقل المجرد وكان يزعم أن هذا من بدعة تشبيه الأفعال عند المعتزلة ثم يبدو أنه عاد عن ذلك القول كما يظهر من كلامه:

(ولو كان الله لا يجب عليه ما أوجبه على نفسه بمقتضي كونه الحكيم العليم الذي لا يضع الشيء في غير موضعه ما قال سبحانه:

رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).

كما كرر نفس المعنى في مواضع أخرى والعودة للحق دليل على الصدق فنسأل الله له التوفيق والسداد ولا نبتغي بمثل هذا النقد إلا الإعانة على تصحيح الرؤية.

لسان حال الرجل يقول إن كل ما جاء به العلم الحديث مردود لأنه لو كان هناك فائدة من ورائه أو تحسين لتصوراتنا حول العالم لما حرم منه أسلافنا ويسعنا ما يسعهم.

وهذا سلوك يستطيعه كل بوذي أو هندوسي أو صاحب عقيدة باطلة ليتأول به الأدلة الساطعة ضد عقيدته، لكن ليس صاحب الحق.

تريد أن تنتقد العلوم أهلا وسهلا لكن بمنهجية علمية وليس بإطلاقات فلسفية لا تقدم ولا تؤخر.

الرجل يقدم أطروحة عجيبة مشوهة تجمع بين الظاهرية الفجة عند التعامل مع نصوص الشرع وبين سيولة نسبوية ما بعد حداثية عند التعامل مع العلوم التجريبية.

وفي العموم فإن الرجل يظن أن النظريات العلمية هي مجرد نظريات فلسفية لكنها ترتدى بالطو أبيض أنيق ليس إلا. كما يظهر ضعف إدراكه لكيفية البحث العلمي عند تأمل النماذج الثالثة التي مثل بهم على وجهة نظره بأن التوصيف الرياضي والمشاهدة لا تغني ولا تسمن من جوع، فهو يظن أن النظرية العلمية مجرد تخمين غيبي لتفسير الظاهرة المشاهدة وهذا التخمين لا يمكن التأكد من صحته أبدا أو تفضيله على أي تخمين غيبي آخر من خلال المشاهدات تماما مثل النظريات الفلسفية القديمة ولكن الفرق الوحيد أن النظرية العلمية عبرت عن الظاهرة تعبير لغوي برموز رياضية لمجرد ذَرُّ الرماد في عيون العوام والظهور بمظهر علمي بدون أن تقدم هذه النماذج الرياضية أي إضافة حقيقية للتفسير المفترض وهذا اعتقاد خرافي يناطح به الواقع وكأن التقدم العلمي في القرون الأخيرة كان مجرد ضربة حظ بدون أي تغير جذري في المنهج المعرفي الذي اتبعته البشرية منذ آلاف السنين.

وفي أثناء سعيه لإثبات وجهة نظره هذه ذهب في إحدى المرات يثبت للقارئ أنه لا إشكال في الاعتقاد بثبات الأرض بالرغم من أن النماذج الرياضية في النظريات العلمية الحالية تمنعه لأن هذا لا يعني أنه صار ممتنعا رياضيا. فكيف أثبت ذلك؟

كتب فيما معناه أن الجائز عقلا قد يكون جائز فيزيقيا وقد لا يكون جائزا، والجائز عقلا وفيزيقيا قد يكون جائز في النماذج الرياضية للنظريات العلمية التي تصف عالمنا وقد لا يكون جائزا.

ثم وضع رموزا للجائز عقلا والجائز فيزيائيا والجائز رياضيا كمجموعات بينها مشتركات ومفترقات وهذا أشبه بأن ترسم ثلاث دوائر بينهما مواضع اتحاد واختلاف كشكل توضيحي لمعني النص الذي قلته. لكنه لم يرسم شكلا توضيحيا وإنما أعاد كتابة عبارته على هيئة رموز (فيما يشبه المعادلة الرياضية) وسمي صنيعه هذا بالصياغة الرسمية لتلك العلاقة المنطقية ثم استدل بصياغته الرسمية هذه على أن فلسفة الرياضيات توافقه على ما ذهب إليه من أن الشيء قد يكون جائزا فيزيائيا بالرغم من أنه ممتنع في النماذج الرياضية التوصيفية للواقع.

وبالرغم من أنني أوافق إجمالا على فكرة انفكاك السبل الثلاثة (العقل والواقع والرياضيات) عن بعضهم البعض إلا أنني لم أفهم لماذا يتحدث وكأنه قدم دليلا ما على ذلك ويبدو أنه اعتبر أن كتابته للعبارة بهيئة رمزية يعد في حد ذاته تسويغا رياضيا منطقيا لمحتوى الفكرة.

وهذه تصلح أن تكون مزحة منه لكنه كان جادا للأسف وما فعله يعادل تماما أن تستبدل عبارة كتبتها برموز هيروغريفية ثم تستدل بذلك على أن الفراعنة قد وافقوك على ما ذهبت إليه.

في الحقيقة النماذج الرياضية لها وظيفة مختلفة تماما عما يتصوره صاحبنا فهي ليست وصف بطلاسم ورموز معقدة لمعني كان مفهوم وواضح عندنا  ابتداء وإنما هي أداة لتوصيف الظاهرة  واختبار الفرضيات من خلال نتائج الديناميكا الرياضية أو الحاسوبية والفروض يجب أن تكون قابلة للاختبار من خلال التنبؤات ولو كانت فروضا غيبية تماما كما يزعم لما صح وصفها بأنها نظرية علمية فعندما أفترض أن هناك علاقة سببية بين شيئين أقوم ببناء نموذج رياضي أو حاسوبي لاختبار هذه العلاقة ومن خلال تغيير البارامترز تتغير النتائج ثم نحلل هذه النتائج لنرصد مؤشر على وجود العلاقة أو غيابها, وكذلك التنبؤات المشاهدة تؤكد أو تنفي الفروض ولو كانت الفروض محصنة تماما من قابلية الاختبار هذه فلن تكون النظرية علمية.

فمشاهدة شعاع الضوء ينحني عندما يمر بالقرب من الشمس أو النجوم فيما يعرف بعدسة الجاذبية (5) تؤكد أن تأثير الكتلة يكون على نسيج الزمكان نفسه وليس على كتلة الجسم الآخر لأن الضوء ليس له كتلة لتتأثر بجاذبية  كتلة النجم, فليس الأمر ممكن التأويل ضمن ميكانيكا نيوتن أيضا ولكن الفيزيائيين أعجبهم فلسفة اينشتاين لأنها أكثر دهرية كما زعم صاحبنا أن الضوء قد يكون تأثر بالقوة الدافعة أو القوة الجاذبة  لأن الجاذبية عند نيوتن تكون بتأثر كتلة على كتلة أخرى فإذا كان الضوء بلا كتلة فلا يمكن أن يتأثر بالجاذبية وبالتالي لا يمكن أن ينحرف مساره إذا مر بالقرب من نجم أو جرم له كتلة كبيرة.(6)

ومع ذلك فميكانيكا نيوتن مازالت صحيحة على نحو تقريبي في الجانب الذي لا يظهر الخلل فيها ويمكن اشتقاق معادلات اينشتين منها لكن معالجة آينشتين هي فقط الصحيحة عند الاقتراب من الكتل الكبيرة أو التحرك بسرعات كبيرة أو وصف تأثير الجاذبية على شيء عديم الكتلة لأن الاختلاف في النتائج هنا يعود إلى اختلاف فروض النظريتين.

أمر آخر لم أفهمه الصراحة وهو جعله لغتنا اليومية الطبيعية مرجعا لمحاكمة الأفكار العلمية والفلسفية على حد سواء ولا أعلم هل هذا تأثرا بفلسفة فتجنشتين أم ماذا؟  لكن لو كان الأمر كذلك فهذا يسقطه في تناقضات كثيرة مع البديهيات والقطعيات التي يتبناها.

ولو لم يكن كذلك فمن أين له هذا التسويغ؟

ومن مرتكزات الكتاب أيضا اعتماده على أزمة تكافؤ الأدلة الحسية أو عدم التحديد العلمي  لدوهيم و تعميمه  لفكرة أن الأدلة الحسية التجريبية لا يمكنها أبدا أن تحسم الجدل بين الفروض النظرية المختلفة وهذا وإن كان حاصلا في بعض النظريات فلا شك أن تعميمه على كافة النظريات العلمية مبالغة غير مقبولة منه ولا من غيره والذي قاله أصحاب نظرية عدم التحديد العلمي أن النظريات العمية لا ينبغي أن يتم الحكم علي كل منها بمعزل عن باقي النظريات المشتبكة معها لأن هذا الترابط هو الضمانة التي ترجح صحة حكمنا إن عجزت الأدلة التجريبية المباشرة عن هذا الترجيح لكن بالطبع ليست كل حالات عدم التحديد على نفس الدرجة بل هناك تقريبا ثمان درجات متفاوتة لعدم التحديد . وهناك من فلاسفة النسبوية والتفكيكية وما بعد الحداثة من يبالغ ويذهب لتعميم عدم التحديد ليصير شكوكية تشمل معرفتنا البشرية كلها وليس فقط النظريات العلمية وهؤلاء كلامهم مردود. كما أن البعض يستخدم آلية السرد التاريخي ليخرج بنتيجة مفادها أن العلم التجريبي لا يخبرنا بشيء عن الحقيقة ولا يمكن الوثوق فيه لأن نظريات الأمس أصبحت باطلة اليوم رغم احتفاء العلماء بها في الماضي. وهذا باطل لا يقبله عاقل وهو تماما كاستدلال الملحد بتعدد الأديان وإخلاص أتباع كل ديانة لدينهم، على أنه لا يوجد أي دين صحيح من بين كل الأديان.

هذا كله ولم أقرأ سوى ثلث الكتاب أو أقل من ذلك وإن كنت لا أنكر أن الكتاب به فوائد لكن وجب التنبيه على مساوئ هذا النهج المعادي للعلم خصوصا أنه يقدم نفسه باعتبار أنه مذهب أهل السنة والجماعة في الغيبيات والتجريبيات ويبدع ويطعن في ديانة كل من خالفه.

 

 

 

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

Translate