التعاون هو معضلة داروين الأخيرة

هكذا يصفها روبرت ماي عملاق اوكسفورد الذي وضع مع مارتن نواك آلية التركيب المكاني و التي هي أحد أهم الآليات الإضافية  لدعم التعاون.
https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0960982209016881

و طبعا هي ليست المعضلة الأخيرة و لا شيء فهناك معضلات كثيرة يعترف بها الدراونة مثل أصل الحياة و الشيخوخة و الوعي و التشفير و نشأة الأنظمة البيولوجية و غير ذلك كثير
https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0079610715000115
و هذا بحث خاص بمشاكل الوعي وحده و المؤلف جعل الوعي البشري و إمكانية انبثاق العقل من العمليات الدماغية هو المعضلة الكبري التي يمكن ألا تحل أبدا
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4574630
لكن هذا يبين أهمية معضلة التعاون التي تواجه التفسير الدارويني للحياة و أنها مشكلة كبري لم تحل حتي الآن رغم كل هذا السعي الحثيث ( و نحن نزعم أنه لا يمكن أبدا حلها في ظل الاكتفاء بالإطار الدارويني و الآليات المادية عموما) ولا يمكنهم تجاهلها مهما حاولوا التظاهر بذلك The elephant in the room 

التعاون هو أساس النظام البيولوجي كله فهو واسع الانتشار و ممتد في كل مظاهر الحياة فلا يمكن تجنبه لأنك تواجهه في أي مستوى تريد دراسته بداية من الجينات التي يسلك بعضها سلوكا أنانيا أو متعاونا و انتهاء بمجتمعاتنا البشرية و نظمها السياسية و الإقتصادية .
و مشكلة التعاون أنه مكلف ثم أنه معرض دائما للاستغلال و هما معضلتان.
لأنه إذا كان مكلفا فكيف وجد و انتشر بالانتخاب الطبيعي؟
و إذا كان معرضا دائما للاستغلال من قبل الأنانيين فكيف استمر و صمد كل هذا الوقت؟
و كثيرا ما يركز الدراونة علي محاولة حل المعضلة الأولي و التغافل عن الثانية( كما فعل دوكينز في كتاب الجين الأناني).
لكن معضلات التعاون عموما أرقت داروين كثيرا حتي كتب أنها المعضلة المتفردة القاتلة لنظريته و التي يمكنها أن تفند النظرية بأكملها ثم عاد و اقترح حلولا لها و اعتبر أن المشكلة تحت السيطرة.
و قد أغفل منتقديه المعاصرين له هذه المعضلة و اهتموا بمعضلة توريث الصفات( و سبحان الله مازالت حتي اليوم معضلة التعاون مهملة من منتقدي التطور)
لكن بعد مائة عام تقريبا  من صدوركتاب أصل الأنواع جاء هاميلتون و أقر أن التعاون هو المشكلة الأكبر و قدم آلية إضافية لتفسير التعاون و هي انتخاب ذوي القربي ليصبح بذلك أهم عالم بيولوجي بعد داروين ثم جاء إدوارد ويلسون و مارتن نواك لينصروا تفسير إنتخاب المجموعة و يبينوا أن انتخاب ذوي القربي لا قيمة له و مازال هذا الصراع قائما بين الدراونة حتي الآن.
لكن كل هذه الآليات الإضافية لا تقدم حلا نهائيا لحفظ التعاون فهي بالكاد تفسر إمكانية وجوده في ظروف خاصة محددة و لا تفسر انتشاره العام و استمراره الدائم في كل صور و مستويات الحياة.
و يبقي التعاون دائما مهددا لأنه منهزم أمام الأناني لا محالة وفقا لحكم الانتخاب الطبيعي.
و هذا  يظهر جليا في مأساة الموارد المشتركة و معضلة السجين التي قضت بأن مقابلة واحدة بين متعاون و أناني ستنتهي حتما لصالح الأناني مما يؤدي إلي زوال التعاون و من ثم زوال المجتمع كله بما في ذلك الأناني مما يعني انتهاء كل صور الحياة .
لكن ماذا عن المقابلات المتكررة هل يمكن أن تغير نتيجة معضلة السجين؟
في دورات اكسيلرود الحاسوبية ظهرت استراتيجية واحدة بواحدة Tit for tat
التي يمكنها أن تغير نتيجة معضلة السجين لصالح المتعاون لأنها تعطي الفرصة للمتعاون أن ينتقم من الأنانيين و يدعم المتعاونين و ذلك من خلال تذكر القرار السابق لمن ألاعبهم و بناء عليه سوف أكون متعاونا في المرة القادمة فقط مع من كان متعاونا معي في المرة السابقة و هكذا... و بذلك ينعزل المتعاونون عن الأنانيين في التعامل و يتعاونون فقط فيما بينهم positive assortment و يعاقب الأناني بمثل صنيعه لأن كل لاعب سيختار هل يتعاون أم لا وفقا لمعرفته بالاختيارات السابقة لللاعب المقابل له لكن هذه ليست بالطبع نهاية القصة.
في عام 2012 قدم  ويليام بريس (عالم فيزياء نظرية و حوسبة بيولوجية و رئيس الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم AAAS) و فريمان دايسون (عبقري الرياضيات و الفيزياء الذي أسس نظرية المجال الكمي مع فاينمان)  ورقة صادمة تكشف عن مستوى آخر من الاستراتيجيات داخل نموذج معضلة السجين لم ينتبه له أحد رغم الدراسة المكثفة للنموذج منذ أكثر من نصف قرن و هذه الاستراتيجيات تسمىZero-determinant strategies
و الاستراتيجية  الأخطر فيهم  هي
extortionate ZD strategy
التي تعنى ابتزاز اللاعب المقابل لكن هذه المرة ليس فقط بالتصرف بشكل أناني بل بالتلاعب به كليا  فهو ليس ذاك الأناني الصريح و إنما هو أناني يتعاون أحيانا بالقدر الذي يجعل الطرف المقابل مخدوعا ليسهل ابتزازه.
و ليس ذلك فحسب و إنما يقوم المبتز بتحديد أرباح الطرف الآخر و تثبيت نسبة ثابتة بين ربح الطرفين  بصرف النظر عن أي فعل يمكن أن يقوم به هذا الطرف الآخر فلا حيلة له في تغيير هذا المصير. و هذا لن يتأثر بذاكرة اللاعب المقابل فمهما تذكر من اللعبات السابقة فالنتيجة ستكون تماما مثل اللعب لأول مرة.
و هذه الاستراتيجية الأنانية لا تقهر و سوف تغلب أي استراتيجية أمامها بما فى ذلك استراتيجية  واحدة بواحدة و هذه كانت المفاجأة .
و أي لاعب تطوري يقف أمام استراتيجية الابتزاز سيغلب و  سيكون أفضل حل له هو الاستسلام للابتزاز لكي يزيد ربحه الزهيد الذي سمح له به المبتز.
لكن لو كان اللاعب بشر واعي فقد يختار أن يثور علي هذا الوضع و يرفض الاستسلام لمعاقبة المبتز لكي يرتدع حتي لو كان فى ذلك ما يلحق به هو الضرر قبل الإضرار بالمبتز.
https://www.pnas.org/content/109/26/10409
و هكذا خرجت نتائج بريس و دايسون لتعيد لاستراتيجية الأناني هيمنتها و تجعلها استراتيجية لا تهزم و تسود علي كل استراتيجية مقابلة و هذه أزمة كبيرة في وجه نظرية التطور لأنها بذلك تقف عاجزة عن تفسير وجود الحياة و قيامها علي التعاون و لكن الورقة استثنت ما إذا كان اللاعب المقابل له وعي بشري.
لكن سرعان ما أتت محاولات النقد و أهمها كانت ورقة بولتكن و تلميذه ستيوارت 2013 التي توقعت عدم استقرار استراتيجية الابتزاز عند انتشارها نتيجة كثرة احتكاك الأنانيين ببعضهم البعض و من ثم يؤول الأمر بهزيمتهم و سيادة استراتيجية تعاونية متقدمة  هي استراتيجية السخاء generous ZD
و بالتالي فالتطور سينصر المتعاونين في النهاية و من ثم يقدم تفسيرا ممكنا للحياة التى نعرفها.
و تبع ذلك أيضا تجارب تؤكد ما توقعته ورقة بريس و أديسون في جانب اللاعب الواعي و أنه يستطيع تأديب و ردع المبتز.
أي أن التعاون مؤيد من خلال الانتخاب الطبيعي  علي مستوي الصراع البيولوجي الطبيعي الغير واعي و كذلك الواعي
لكن هذه أيضا لم تكن نهاية القصة.
في عام 2014 عاد الثنائي بولتكن و ستيوارت بورقة أخري  صادمة قاموا فيها بتمديد نموذجهم السابق ليشمل التلاعب في الاستراتيجيات و نسبة الأرباح التي يحصل عليها المتعاونين أيضا و ليس التلاعب في الاستراتيجيات فقط و التغيير بين متعاون و أناني و كانت النتيجة هي أن استراتيجية الابتزاز ستتغلب علي أي استراتيجية أخرى بما في ذلك استراتيجية السخاء  و سوف ينهار التعاون حتي لو ظللنا نزيد في المكافأة التي يحصل عليها المتعاونون نتيجة تعاون متبادل.
حتي أن بولتكن وصف نتائج  ورقته بأنها مخيبة للآمال من وجهة النظر التطورية.

https://www.pnas.org/content/111/49/17558

https://phys.org/news/2014-11-game-theory-analysis-evolution-favors.html

و هذه ورقة  نشرت في 2016 تؤيد بشكل تجريبي أن الابتزاز سيغلب السخاء

https://www.nature.com/articles/ncomms11125

و هذه ورقة نشرت في بداية 2019 تثبت أن الأمر أبعد مما صورته ورقة بريس و دايسون حين استثنت اللاعب الواعي من الانهزام أمام المبتز.
لأن المبتز سيغلب حتي اللاعب الواعي و لن يرتدع من العقاب أو التأديب  في حالة إذا ما كان هناك حافزا يجعل التنافس أكثر شراسة.
و ذلك من خلال تجربة علي طلاب بمكاسب مادية حقيقية و تقديم مكافأة تحفيزية خاصة 10 يورو إذا كان الفارق بين مكسب أحد اللاعبين عن الآخر يزيد عن 10% مما يعوض المبتز عن خسارته حين يعاقبه اللاعب المقابل و هذا يجعل المبتز أكثر جرأة و شراسة .
و قالوا أن هذا الموقف موجود في صور واقعية كثيرة مثل الترقي في السلم الوظيفي عن طريق إثبات فارق الكفاءة أمام المديرين علي حساب التعاون المتبادل بين الزملاء
https://www.nature.com/articles/s41467-019-08671-7

https://phys.org/news/2019-02-friendly-extortioner.html

الخلاصة: الابتزاز و الأنانية استراتيجيات لا تغلب من أي استراتيجية أخري وفقا لآليات التطور و وفقا لأطر المكسب و الخسارة التي تتجلى في رياضيات نظرية اللعبة و تطبيقاتها العملية سواء كان ذلك علي مستوي تفاعلات بين كائنات غير واعية أو بشر  مرجعيتهم مادية.
و هذه أزمة علمية تجعل التطور غير قادر علي تفسير الحياة التي يقوم أساسها علي الانحياز للتعاون .
لكن إذا ما ذهبنا مع الامتداد الصحيح لآليات التطور ستكون النتيجة الحتمية هي دمار و زوال أي نظام بيولوجي و ليست إقامته كما يفترض بالنظرية التي تفسر الحياة أن تكون .
بالإضافة إلى ذلك تبرز أزمة متعلقة بفلسفة الأخلاق النفعية  التي كانت تحاول تفسير الأخلاق من زاوية أنها سلوكيات تعاونية تعود بالنفع على الفاعل و تكون بذلك استراتيجية مقدمة علي الأنانية أو اللاأخلاقية.

تعليقات