(11) نقد كتاب شون كارول الصورة الكبيرة The Big Picture


هذا الفصل في الكتاب كان من أكثر الأجزاء اضطرابا و ختم بجزئين عن المسؤولية الأخلاقية و الارادة الحرة في غاية الارتباك يمكن أن تقول عنهم أنهم حرفيا لم يقولوا أي شيء  يبرر وجود المسؤولية الاخلاقية أو الارادة الحرة.
و لم يقدم كارول أي امكانية معقولة لنشأة الارادة الحرة من خلال قوانين الفيزياء قبل ان يتوسل بالمجهول و كأن الأمر ممكن و ليس مستحيلا لذاته.
فهو مستحيل لأن معنى القانون هو وجود خصائص محددة تتوفر إذا توفرت شروطها المحددة أيضا و يكون هذا النسق متكررا  فنغلفه بإطار وصفي اسمه القانون الطبيعي . فالقانون مثل الخط المستقيم الممتد في اتجاه  واحد و في مسار واحد  و الإرادة الحرة تعني أن كل الاتجاهات متاحة و الا فهي ليست حرة و لذلك فهي مثل الدائرة و لا يمكن أن تكون الدائرة خطا مستقيما أبدا فهذا تناقض ذاتي. 
و هذه الحرية مختلفة تماما عن مقدار الحرية الموجود في احتماليات ميكانيكا الكم فحرية الكم حرية عشوائية و الإرادة و القصد  ينافيان العشوائية كما ينافيان الحتمية الكلاسيكية.
و هذا الجزء الأخير يقر به كارول و يرد علي من يتعلق بعشوائية الكم أن نتائج الكم و ان كانت احتمالية في المستقبل فهي مازالت احتمالات  محددة معتمدة علي حالة الكون الان.
لكن ماذا عن الادراك و الفهم و المشاعر النفسية الخاصة و الاعتقاد بكيان واحد مستقل يمثل الذات و غير ذلك من معاني الوعي و التعقل؟
كارول يقول أن أكثر علماء الأعصاب تفاؤلا لا يستطيع الزعم بأننا نملك فرضية مكتملة تفسر الوعي بشكل طبيعي.
و يقول أنه من السهل ان تقنع الناس بأن هناك تفسير طبيعي فيزيائي لنشأة الكون بدون الحاجة لسبب فوق طبيعي و من السهل كذلك  أن تقنعهم بأن الحياة نشأت و تطورت من خلال آليات طبيعية لكن من الصعب جدا أن تقنعهم أن وعيهم و مشاعرهم هي نتيجة لتفاعلات كيميائية و إشارات كهربية في أدمغتهم.
ثم ذكر بعض الأشياء التي لا تسمن و لا تغني من جوع و أقر في النهاية أنها لا يمكن أن تقنع من يعتقد أن الوعي شيء غير مادي متعلق بوجود الروح و خارج عن إطار الطبيعة لكنه أتبع ذلك بما اعتبره دليلا مهما قد ينجح فيما أخفقت فيه باقي الادلة و هو متلازمة كابجراس Capgras syndrome
و التي عرضها علي أنها مرض يصيب الدماغ فيفقد الشخص مشاعره تجاه من كان يحبهم رغم أنه مدرك  تماما لهوية هؤلاء الأشخاص فيلجأ الدماغ لحيلة نفسية بأن يعتقد هؤلاء المرضي أن أشخاص عائلتهم أو الاشخاص الذين أحبوهم قد تم تبديلهم بغرباء يشبهونهم في الشكل الخارجي فقط. و بالتالي فاصابة الدماغ أدت الي تغير المشاعر تجاه نفس الشخص رغم عدم وجود مشكلة في التعرف عليه مما يعني أن المشاعر مجرد نشاط دماغي.
و هذا عرض خاطئ لمتلازمة كابجراس. فهي واحدة من مجموعة متلازمات مشابهة يصنفون علي انهم متلازمات عدم التعرف delusional misidentification
فالمصاب لا يتعرف علي من يحبهم لأنه يتوهم ابتداء انهم قد تم تبديلهم  و ان الحاضرين امامه غرباء و لذلك يظهر لهم مشاعر الكراهية مع الاحتفاظ بمشاعر الحب للشخص الأصلي الغائب و بالتالي فالتلف الدماغي ادي الي وجود اوهام او معالجات خاطئة للواقع و لم يغير في المشاعر شيء كما يوضح هذا المرجع العلمي
Projection and splitting are used to direct hate towards the bad impostor while the original continues to be ideal.
https://www.sciencedirect.com/topics/neuroscience/capgras-delusion
ثم تعرض لاختبار تورينج الشهير الذي تعرض له الروبوتات لكي نعرف هل يمكنها أن تفكر و تفهم ام انها فقط تتبع خوارزميات تنتج مخرجات محددة لمدخلات محددة بدون اي ادراك لذلك؟
و اجاب بانه ليس هناك اي حاسوب اقترب من تجاوز اختبار تورينج و ان ما نسمعه في الصحف اليومية عن روبوتات اجتازت الاختبار هي في الحقيقة قد اختبرت بالطريقة التي تجعلها تتجاوزه و ليس بالطريقة التي ارادها تورينج. و انه لا يوجد أي حاسوب في الوقت الحاضر يمكن وصفه بأنه يفكر.
و هذا انصاف جيد من كارول.
لكن لماذا لا تملك الحواسيب وعي رغم أنها نظريا تقوم بنفس دور الدماغ في معالجة البيانات؟
و هل سنحصل علي الوعي و الارادة الحرة لو استطعنا محاكاة الدماغ البشري المكون من مائة بليون خلية عصبية؟
هنا يختلف الملاحدة في إجابتهم
فمثلا ديفيد شالمرز الفيلسوف الملحد الذي صك مصطلح (مشكلة الوعي الصعبة) يؤمن بالروحية الشاملة التي تعني أن كل شيء في الطبيعة يتمتع بدرجة من درجات الوعي و لكن هذه الخاصية لجزيئات الطبيعة هي خاصية موازية للخصائص الفيزيائية و بالتالي فالوعي ليس ناتجا عن خاصية فيزيائية لكنه ناتج عن خاصية طبيعية أو مادية.
و يضرب علي ذلك مثال الفيلسوف الزومبي الذي هو شخص يشبهنا تماما في شكله و سلوكه و يمتلك نفس تركيب دماغنا  لكنه لا يمتلك أي مشاعر أو احساس داخلي و بما أن هذا ممكن منطقيا إذن فالوعي ليس ناتج بالضرورة من خواص فيزيائية.

و كارول يرد علي كلام ديفيد بأن السؤال الحقيقي هو هل هذا ممكن فعلا أم لا؟
فليس كل شيء يمكنك افتراض امكانيته بخصوص الطبيعة.
و لو كان هذا ممكن فعلا فسوف يكون ضربة قاصمة لتفسير الوعي ماديا.
فلو كان عندنا دماغ يحمل نفس تركيب و وظيفة الدماغ البشري لشخص واعي لكن هذا الدماغ غير واعي فهذا يعني ان الوعي غير مادي و انتهي الأمر .
أما افتراض أن هناك خصائص مادية للمواد  لكنها غير تلك الخواص الفيزيائية التي نعرفها فهذا غير ممكن لانك لو افترضت أن الوعي نتج عن حرية حركة لنفس جسيمات المادة تتفاعل بها في منظومة أخرى تنتج لنا في النهاية الوعي لكن هذه الحركات و التفاعلات نفسها غير مدرجة في معادلات الفيزياء للنظرية الاساسية core theory
فهذا يهدم النظرية الاساسية التي تصف كل حركات و خواص هذه الجسيمات و تصف الطرق الحصرية للتفاعل معها. و بالتالي فهذا يهدم كل معارفنا عن الفيزياء.
و حجة كارول هنا صحيحة لأنها موجهه لافتراض خواص غير فيزيائية لنفس المواد التي نعرفها و نعرف الطرق المادية للتفاعل معها لكنها لم تكن صحيحة حين نفي بها الروح أو الأسباب الغيبية أو لا مادية الوعي كما ذكرت هنا
https://abozaralghifari.blogspot.com/2019/01/8-big-picture.html
فضلا عن أن التقسيم الفلسفي للوجود بين ممكن و مستحيل و واجب اذا كان يبيح افتراض وجود أي شيء ممكن الوجود بكل أريحية و بدون تكلفة برهانية فإن العلم التجريبي يأتي بعد ذلك لفلترة هذه الممكنات و يضع شرط التحقق التجريبي من الفروض لكي يكون الفرض علميا و ليس فلسفيا مجردا. و هذا المنهج هو الذي تقدمت به العلوم و أخرجت من دائرتها التخمينات و الخرافات التي هي ممكنات عقلا و فروض فلسفية ممكنة.
و الان أعود لفكرة محاكاة الدماغ البشري و المحاولات المكثفة نحو ذلك.
هناك ما يعرف  بال neuromorphic computing
و neural networking
و هي شبكات تم بنائها عن طريق محاكاة الدماغ البشري في معالجة المعلومات و هناك مشاريع ضخمة مثل Human Brain Project
تطمح الي محاكاة الدماغ البشري.
و لو تم ذلك لكان مثل محاكاة اي وظيفة بيولوجية في الطبيعة و هذا كثير جدا مثل الطيران و الرادار... الخ. لكن هل سيكون هذا الدماغ السيليكوني واعيا ام سيكون حاسوب فائق الدقة و المهارة في معالجة البيانات؟
الجواب هو الثاني و حينها ستكون باذن الله ضربة قاصمة للمادية و الالحاد كما توقع كارول لأن هذا سيكون دليل واضح علي لامادية الوعي و استحالة تفسيره بشكل طبيعي فيزيائي.
ما وصلنا له حتي الان يمكن ان يعطي لمحة جيدة أيضا
فبظهور neural networking التي تنتقل فيها المدخلات بنفس طريقة انتقال الاشارات الكهربية في الخلايا العصبية. ظهرت خوارزميات التعلم العميق deep learning
و الفرق بينها و بين machine learning
أن الثاني كان المبرمج يحتاج أن يعلم الحاسوب الخواص التي يحتاج ان يبحث عنها لكي يتعرف علي الشيء ثم يتركه ليطبق ما تعلمه علي اشياء اخري
مثل ان يحدد له ان صورة الكلب يجب ان تحتوي علي رأس بشكل معين و أربعة أقدم بشكل معين و هكذا.
اما التعلم العميق فالمبرمج لا يحتاج أن يعلم الحاسوب خصائص الاشياء و انما يعرض عليه بيانات كثيرة و اجابتها الصحيحة و الحاسوب يبدأ في استخلاص هذه الخصائص المميزة لتلك الاشياء. فمثلا يعرض عليه صور كثيرة لرقم 5 مكتوبة بخط اليد و يوضع له المخرح الصحيح علي انه 5 فيستخلص هو مميزات الرقم 5 و يمكنه بعد ذلك التعرف علي صور للرقم 5 لم تعرض عليه من قبل.
و هذا حدث عندما قمنا ببناء الشبكات لمحاكاة الخلايا العصبية. فهل هذا دليل علي أن تلك الشبكات تفهم و تتعلم و تجرد المعاني و تعممها و ان تركيب الدماغ يفسر الوعي؟
الجواب لا بل العكس تماما هو الصحيح.
فما تفعله خوارزميات التعلم العميق هو مجرد معالجة متقدمة للمعلومات و هو  ابعد ما يكون عن الفهم و الوعي و الشعور.
و الدليل علي ذلك انك لو طلبت منها ان ترسم الرقم 5 فلن تستطيع و لو عرضت عليها صورة مشوشة لا تحمل اي علاقة بالأرقام فقد تصر علي انها الرقم 5 و قد تعرض عليها صورتين متطابقتين للباندا فتقول علي احدهما انها باندا و تقول علي الاخري انها قرد بابون
و هذا لانها لا تتعرف علي الخصائص بالتحليل المنطقي و فهم المعاني و انما بتشفير الاختلافات الي نبضات في نقاط معينة داخل الشبكة ثم تقييم هذا التشفير بناء علي الاقتراب او الابتعاد من الاجابة الصحيحة التي يدخلها المبرمج اثناء التدريب ثم اذا ما وافق التشفير الاجابة الصحيحة يتم اعتماده و تطبيقه دائما. و هذا كله دوال رياضية و ليس فيه اي وعي او فهم او ادراك لمعني اي شيء من المدخلات او المخرجات.
هذه الروابط تشرح الموضوع بطريقة رائعة و ان كنا لا نعرف علي وجد التحديد ما يحدث فعلا داخل الطبقات الخفية للشبكة لكن هذا هو أقرب التصورات

https://youtu.be/aircAruvnKk

https://youtu.be/IHZwWFHWa-w

http://neuralnetworksanddeeplearning.com/chap1.html

تعليقات