العرض:
مازلنا في الفصل الثاني و كان يفترض أن أتناول الجزء 11 منه لكنني سأقفز إلى الجزء 16 ثم أعود مرة أخرى إلى الجزء 11.
الجزء 16 عنوانه هو (ما الذي يمكن أن نعرفه عن العالم بدون النظر إليه؟ )
و هذا جزء هام جدا في الكتاب و به تصريحات نارية لكارول مثل :
1-العلم ليس هو الطريق الوحيد للمعرفة و لكن هناك أيضا الرياضيات و المنطق
2-اعتراضه على ما كتبته الأكاديمية الوطنية للعلوم حول تعريف العلم بأنه تفسير الطبيعة بوسائل طبيعية فقط و أن الأسباب فوق الطبيعية لا تدخل في إطار العلم.
3-اعتباره أن الخلط بين المنهجية الطبيعية و العلم هو أكبر خطأ يمكن أن نرتكبه و أن العلم يجب أن يبحث عن تفسير الظواهر سواء كان هذا التفسير طبيعي أو فوق طبيعي
4- العلم يستخدم المنهجية التجريبية و ليس الطبيعانية لأن العلم عبارة عن أداة لاستكشاف العالم و ليس أفكارا و استنتاجات حوله
5-ليس هناك أي شيء في العلم يستبعد ما فوق الطبيعي من البداية و لو قادنا العلم إلى نتيجة تجعل التفسير الفوق طبيعي هو أفضل التفسيرات فعلينا قبول ذلك و هذا قد يحدث مثلا لو عاد المسيح و أحيا الموتى و أقام الحساب و حينها سيواجه العلماء دليلا تنقله لهم حواسهم و هو يؤيد التفسير الفوق طبيعي و سيصر حينها كثير منهم على عنادهم و تمسكهم بالتفسير الطبيعي فقط.
6-علاقة العلم بالطبيعانية ليست أن العلم يعتقد مسبقا بأن التفسير الصحيح سيكون حتما طبيعي و إنما أن الممارسات العلمية خلصت - بشكل مؤقت- إلى أن التفسير الطبيعي هو أفضل التفاسير حتى الآن و قد تظهر أدلة تغير ذلك.
(في ايه يا كارول ما توحد الطبيعة يا جدع انت حتكفر و لا ايه 😂)
حسنا هذه التصريحات رائعة جدا و الآن نعود إلى محور هذا الجزء و هو ما الذي يمكن أن نعرفه عن العالم بدون النظر إليه؟
كارول يقول أن المبرهنات الرياضيات تعتني بالإثبات و الذي هو نتائج صحيحة حتما تصل إليها إذا بدأت من مسلمات معينة و هذا يكون صحيح في كل العوالم الممكنة لكننا قد لا نعلم هل المسلمات التي انطلقنا منها صحيحة ام لا؟ و بالتالي يجب أن يأتي دور الاختبار التجريبي و الاستقراء لكي نتعرف على العالم.
فالهندسة الاقليدية صحيحة لكن بشرط أن تكون مسلماتها تنطبق على عالمنا هذا فإذا ما علمنا أن الزمكان ليس مسطحا و أن به انحناءات لم تعد الهندسة الاقليدية مناسبة - رغم صحتها- و يجب الانتقال إلى هندسة ريمان.
و يقول أيضا أن المدرسة العقلانية لا تعتمد على الاستقراء في الوصول إلى المعرفة و إنما تكتفي بالعقل و المنطق و هذا لا يمكن أن يعطي معرفة صحيحة عن العالم من حولنا.
ثم يتعرض للمعارف القبلية و يقول أننا لا نأتي إلى هذه الحياة كالصفحة البيضاء و إنما يكون مركب فينا غرائز و بديهيات و وسائل تمكننا من التعامل مع البيئة من حولنا و هذا قد يكون من فعل التطور على مر ملايين السنين و قد يكون الله هو الذي زرع بداخلنا هذه المعارف فنحن لا نعرف مصدرها و من الخطأ التسليم بأنها معارف صحيحة بدون اختبارها تجريبيا.
لكن التجريب متعلق بهذا العالم فقط فقدرة عقولنا على تجريد الأمثلة الفردية ثم تعميمها يفيدنا و نقوم به باستمرار لكن لا يصح منطقيا و لا رياضيا الاعتماد عليها للوصول إلى مباديء عامة مطلقة. لأن أول حقيقة جديدة تواجه هذا التعميم قد تنقضه.
أي أن كارول يرجح طريقة بييز و التي تبدأ بمصداقية معينة للفروض و تعدل هذه المصداقية وفقا للبيانات الجديدة الواردة من خلال الاستقراء لكن الفروض المعزولة عن الاستقراء لا يمكن تصديقها و كذلك الاستقراء وحده لا يمكن أن ينشئ مبادئ عامة.
هذه أفضل طريقة متاحة لكنها ليست طريقة يقينية لماذا؟
هنا نعود إلى الجزء 11 الذي تجاوزته و الذي كان عنوانه: هل من الجيد أن نشك في كل شيء؟
و خلاصته هي أن استقرائنا للعالم لا يمكن البرهنة على صحته. و مر في ذلك على بيرتراند راسل و فتجنشتاين و ديكارت و بولتزمان و غيرهم. و الحاصل أنه لو كان هناك شيطان يخدع كل حواسنا أو كنا كائنات رقمية داخل لعبة أو كنا أدمغة داخل أحواض أو كنا في كون أزلي وصل للتوازن الحراري و أصبحت الذرات تتشكل فيه عشوائيا بكل الاشكال الممكنة مما يجعل هناك احتمال لتشكلها مباشرة على شكل دماغ سابح في الفضاء محمل بذكريات كاذبة عن الماضي (هذا على فرض أن الدماغ ينتج الوعي ) فلن يكون هناك أي وسيلة للفرار من هذا الاستقراء الكاذب.
______________________________
النقد:
هناك أسئلة كثيرة يجب أن تخرج من هذا المقال و قد عرفت إجابتها مثل :
ما الفرق بين الفروض و البديهيات؟
ما الذي نحتاج أن نعرفه عن العالم لنعرف الخالق؟
هل نحتاج أن نختبر البديهيات لنعرف مدى صحتها أم أنه لا معرفة ممكنة أصلا إلا من خلالها؟
إذا كان العلم هو أفضل طرقنا المعرفية فهل تكون البديهيات هي أصل العلم و المعرفة؟
هل يمكن أن نوقن في وجود الله من خلال البديهيات بالرغم من أننا مازلنا نشك في كل معلوماتنا الاستقرائية عن نفسنا و عن العالم ؟
هناك جانب يشبه الاستقراء نقوم به بالفعل لاختبار البديهيات لكنه تفعيلا و ليس استقراء . لأن البديهيات ليست فروضا أو حتى استدلالات منطقية تقبل الصواب و الخطأ بل هي معيار الصواب و الخطأ نفسه و هي الأسس التي يبني عليها أي معرفة ممكنة سواء كانت هذه المعرفة يقينية أو محتملة أو حتي مجرد شك.
فنفس الإعلان عن الجهل يحتاج إلى الاستناد إلى البديهيات لكي يمكن تصوره. و لذلك فإن كانت الفروض تحتاج إلى استقراء فالبديهيات تحتاج فقط إلى تفعيل و هذا التفعيل يكون بمجرد وجود الإنسان نفسه و بداية عملية التفكير لديه.
و إذا كان الأصل في الفروض أن تبدأ بالشك حتى يدعمها الدليل فالبديهيات تبدأ باليقين لأن الشك نفسه عملية منطقية تحتاج إلى تأسيس معرفي يستند في وجوده إلى البديهيات.
و لذلك فالبديهيات عميقة إلى أبعد حد يمكن تصوره. فمن يرفض البديهيات يرفض المعرفة كلها فهو كمن يرفض التفكير بعقله بدعوى أنه قد يصل إلى نتائج أفضل إذا استخدم قدمه.
فإذا كنا نقبل بصحة أي درجة من درجات المعرفة البشرية - حتى لو كانت هذه الدرجة هي وعينا بأننا نشك في كل شيء و نجهل كل شيء- فيجب أن نسلم قبلها بصحة البديهيات.
و السببية من ضمن البديهيات التي يتم تفعيلها بمجرد وجودك فلا تحتاج إلى استقراء الكون استقراء صحيحا لتتأكد من صحتها و إنما توقن بصحتها بمجرد وعيك بأنك تفكر فأنت الدليل على أن السببية قائمة صحيحة لا يهدمها شيء و هنا اقتبس جزء يوضح ذلك من كتابي اختراق عقل :
[متى تنهدم السببية؟
تنهدم السببية في حالة لو وجدنا شيئاً من هذا الكون لا تتغير صفاته ولا تزول بزوال أسباب وجودها، فسنعلم بذلك أنه لا يحتاج إلى شيء في وجوده. وكذلك تنهدم السببية لو وجدنا شيئاً ليس له حدود يعجز بعدها ولا يحتاج إلى الأسباب ليتصف بصفة لم تكن من صفاته، وإنما هو قادر دائماً على الاتصاف بكل صفة وقادر كذلك على فعل كل شيء بدون الحاجة لامتلاك أسباب ذلك الفعل. فستنهدم حينها السببية.
وهذا نعلم أنه لا يحدث ولم يحدث ولن يحدث لأنه لو كان مثل هذا الشيء موجوداً بالفعل لطغى على كل شيء ولما استقر نظام ولا قانون في هذا العالم ولما امتازت الأشياء بعضها عن بعض بالخصائص المميزة لكل منها.
فكل مَن يدعي أنه ربما يكون هناك شيء يخرق قانون السببية في كوننا هذا أو حتى في أكوان أخرى غير كوننا لا نعرف عنها شيئاً، نقول له لو حدث ذلك لانهدم مبدأ السببية في الواقع (Ontic) الممثل في القوانين الفيزيائية وليس الذهني البدهي المعرفي (Epistemic) لماذا؟؟
لأننا لو فرضنا أن شيئاً ما خرق مبدأ السببية بالفعل واستطاع فعل شيء بدون الحاجة إلى سبب وجوده فما الذي يمنعه من أن يفعل كل فعل وكل شيء بعد ذلك؟؟
فالذي يمنع الشيء عن فعل معين لا يستطيعه، هو فقد سبب حصول هذا الفعل. والذي يمنع الشيء عن الاتصاف بصفة معينة لم يتصف بها، هو فقد سبب قيامها. والذي يجعل الشيء عاجزاً عن تحصيل نتيجة معينة هو فقد سببها. فما دام هذا الشيء الذي افترضنا أنه خرق مبدأ السببية لا يحتاج إلى الأسباب أصلاً فما الذي يمنعه من فعل كل شيء في كل وقت؟؟
ولو أن هذا ممكن الوقوع لما كنا نحن الآن هنا ولما كنا نعتقد بشيء اسمه قانون السببية أو قوانين فيزيائية حاكمة لأننا كنا سنلاحظ أن كل شيء يمكن أن يقع بدون سبب. بل لما عجز شيء عن فعل شيء، ولما عجز شيء عن الاتصاف بأي صفة، ولو عاش أحدنا في كون بلا سببية، لما كان يجهل شيئاً، لأن الجهل هو فقد سبب العلم والعجز عن تحصيله، وفي ظل سقوط السببية لم يعد للعجز معنى، بل لو عاش أحدنا في كون بلا سببية لما كان يعلم شيئاً أيضاً لأنه لن يكون هناك خصائص محددة للأشياء تعجز تلك الأشياء عن تجاوزها، وبالتالي فلن يكون هناك ما يمكن أن يعلمه أحد لأن كل شيء يمكنه أن يكون أي شيء.
وإذا كنت لا تحتاج إلى سبب لتفعل أي شيء فأنت كنت كذلك منذ الأزل (لأنه لا يمكن تصور أن الغنى عن كل الأسباب هو صفة يمكن اكتسابها بعد أن لم تكن، لأن هذا يعني أن هذه الصفة المكتسبة لم توجد ولم تبقَ إلا بعد أن وجد سببها وبقي واستمر، وهذه الصفة هي صفة (الغنى عن كل سبب) فهذا تناقض). وإذا كنت لا تحتاج إلى سبب لتفعل أي شيء فستبقى كذلك للأبد (لأنه لا يتصور زوال تلك الصفة عنك إذ أن زوالها عنك لا يكون إلا بإزالة سببها وهي لم تقم فيك بسبب فلا معنى لإزالته).
وهذا كله يبين استحالة أن تفترض سقوط السببية في أي زمان وفي أي مكان والضابط في بيان هذه الاستحالة هو قيام هذا الكون نفسه وقيام القوانين، فقيام السببية نفسه دليلٌ على استحالة سقوطها في أي زمان ومكان، فلا نحتاج لاستقراء الكون كله والزمان كله لمعرفة شمولية السببية ولمعرفة استحالة سقوطها، وإنما يكفينا فقط علمنا بانتظام السببية في الكون لمعرفة ذلك. بل علمنا بقانون واحد صحيح في هذا الكون يكفي لبيان أنه لم يوجد أبداً هذا الشيء الذي أسقط السببية، لأنه لو كان وجد لطغى على كل شيء بما في ذلك هذا القانون، ولما كان ممكناً انتظام أي شيء في الكون.
وهذا الضابط المبين لاستحالة سقوط السببية أشار إليه قول الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (الأنبياء:22) فكما قلت آنفاً أننا لو فرضنا وجود شيء في أي زمان أو مكان لا تحكمه السببية والقوانين فسيكون هذا الشيء طاغياً على كل شيء، ولما منعه مانع من التجاوز على أي قانون آخر أو نظام أو خصائص لشيء آخر، فسيكون تماماً كإله آخر أراد نظاماً آخر غير هذا النظام السببي الذي قدره الله. فبعلمنا أن هذا لم يحدث علمنا أن هناك نظاماً واحداً (فليس هناك شيء خارج النظام وهذا يدل على شمولية السببية) فعلمنا بوجود قانون واحد في هذا الكون كافٍ لإثبات أن السببية تحكم كل شيء في كل زمان ومكان، وبمجرد أن نعلم بقيام النظام يصبح مستحيلاً افتراض سقوط السببية.] انتهى
و أما السيناريوهات التشكيكية التي طرحت كلها بلا استثناء فهي سيناريوهات للتشكيك في الاستقراء و ليس في البديهيات. فبولتزمان ينطلق من الإقرار بالبديهيات و بمعرفة بعض القوانين الفيزيائية أيضا مثل القانون الثاني للديناميكا الحرارية. و ديكارت ينطلق من إمكانية وجود خدعة محكمة في البيانات الواردة لنا من الواقع الخارجي و هذا يستند على وجود صواب و خطأ و عالم خارجي و وجود ذاتي و أسباب للتعلم و مساحة يمكن خداعنا فيها لفقد تلك الأسباب و لذلك يبقى هناك يقين بالسببية و إمكانية للاستدلال بها على الخالق عند أي عقل قادر على أدنى قدر من التفكير حتى لو فرضنا جدلا أن كل البيانات المنقولة له عن نفسه و العالم من حوله كانت خاطئة.
لأن إمكانية خداعه نفسها تفعل بديهية السببية فلو لم يكن هناك سببية لما أمكن خداعه و لما أمكن وجود التفكير و لما أمكن كذلك العلم أو الجهل بشيء.
و لذلك يمكن لأي إنسان عاقل اليقين في وجود الله بمجرد إدراكه لأي شيء و هذا يوضح الفرق الكبير بين حاجتنا الاستقرائية للتعلم عن العالم و التأكد من صحة الفروض حوله و بين تفعيل البديهيات بمجرد البدأ في التفكير .
و نقول لهذا العقل المعلق في حوض و موصل له بيانات خاطئة عن نفسه و عن العالم.
حسنا فليخدعك من وضعك في هذا الحوض كما شاء. ولتشك في كل هذه المعلومات الاستقرائية التي وصلتك . لكنك بعد كل هذا لا يمكنك أن تشك في أنك (ذات) جاهلة محتاجة إلى الاستقراء لكي تتعلم عن نفسك و عن العالم.
فهذه الحقيقة لا يمكن أن تشك فيها لأنك لو كنت عالماً بذاتك مستغنياً عن التعلم لتعرف ماهيتك؛ لما كان هناك مساحة للشك عندك، ولما كان هناك مساحة ممكنة لخداعك، ولما كان الجهل ممكناً في حقك في أي لحظة، فكل شيء سيكون يقينياً معلوماً بالنسبة لك، وهذا أمر مرتبط بذاتك ملازم لها غير مُكتسب، فلا يتصور وجودك بدون تلك المعرفة.
فضلا عن أنه لو لم يكن هناك سببية لما كان ممكنا أصلا وجود هذا العقل المعلق أو الحوض أو الخادع أو المخدوع أو أي شيء له خصائص محددة لا يتجاوزها لأنه سيكون من المستحيل انتظام أي قانون كما بيننا.
إذاً أنت الآن لديك:
1-معلومة يقينية بأن الناقص يحتاج إلى الأسباب و المحتاج إلى الأسباب ناقص.
2-معلومة يقينية بأنك ذات ناقصة محتاجة في وجودها للأسباب و هذا يترتب عليه تفعيل السببية و العلم بقيامها.
3-قيام السلسلة السببية بذاتها مستحيل بموجب تعريف السببية نفسه و يلزم من ذلك أن يكون هناك قائم بنفسه واحد قهار أقامها.
وبذلك يمكن لك أن توقن بوجود الخالق في الوقت نفسه الذي يملؤك الشك في كل ما تنقله لك حواسك عن نفسك وعن العالم الخارجي.
فلو كنت موقنا بأن الطريقة العلمية هي أفضل الطرق للتعلم عن العالم من حولنا أو كنت موقنا بأي شيء آخر مهما كان (حتى لو كان هذا الشيء هو أنك توقن بجهلك التام الذي يجعلك تشكك في كل ما تعرفه عن نفسك و عن العالم ) فالله أولي بأن توقن في وجوده .
قال تعالي (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ)
تعليقات
إرسال تعليق