هذا ملخص الجدل الذي دار في الأيام الماضية مع الماديين الإسلاميين لأني أظن أن معظم الناس انشغلوا عن الحوار بالتشغيب الذي وقع حوله و ظنوا أن الموضوع شخصي و هو ليس كذلك أبدا و لكن هناك أفكار ضالة و خطيرة تنمو يوما بعد يوم عند هؤلاء نسأل الله لهم الهداية و السداد.
ملخص قولهم هو هذا المعنى:
(لا مانع عقلي من أن تكون الحياة و الوعي و الروح و الجن و الملائكة كائنات مادية فيزيائية. و أن من يرى أن هناك بعض الظواهر لا يمكن تفسيرها ماديا و هي بذلك تحمل دلالة خاصة على وجود الخالق فقد وقع في مغالطة التوسل بالمجهول )
و قبل كل شيء يجب أن يخبروننا عن أي فيزياء يتحدثون؟
لأنها لو كانت الفيزياء التي يعرفها العلم فسوف يترتب على ذلك الآتي :
1- لو فرضنا جدلا أنه حقا لا مانع عقلي علي ذلك فليس في ذلك حجة على شيء لأنه لا مانع عقلي أيضا على كل الخرافات . فعدم وجود الموانع العقلية لن يكسبنا أي معرفة عن الطبيعة (و يفترض أنك تحدثنا الآن عن كيانات فيزيائية ) . و في المقابل ليس هناك برهان عقلي لاتصاف أي شيء فيزيائي بأي صفة لأنه لا توجد حتمية عقلية لاتصافه بصفات معينة. و لذلك فالقوانين الفيزيائية التي تحكم عالمنا كان يمكن أن يوجد غيرها بدون أي مانع فيزيائي أو عقلي. و لذلك فالسبيل الوحيد للتعامل مع الظواهر الطبيعية هو الرصد و المعادلات الرياضية . أما تحكيم التأملات العقلية في دراسة الظواهر الطبيعية فلا محل له من الإعراب لأن هذا سيكون محض تحرص و تخمين و بالتالي فهو هراء تماما مثل تحكيم العلم التجريبي في دراسة المنطق و الغيبيات.
2-إذا كانت القوانين الفيزيائية قادرة على خلق الحياة و الوعي فهذا يسقط دلالة الكائنات الحية على الخالق المعروفة بدليل الإتقان و الاحكام. و هذا ما تقوله نظرية التطور إذ تفترض أن الحياة انبثقت من المادة ثم تطورت بآليات مادية حتى أنتجت الوعي. و الاستدلال بالاتقان و الأحكام ليس توسلا بالمجهول و إنما احتجاج بالمعلوم و الذي هو معرفة قدرة الطبيعة و قوانينها و معرفة معالم الإتقان و الأحكام التي يتجاوز وجودها كل قدرات الطبيعة الممكنة. و هذا دليل عقلي و شرعي أيضا احتج به القرآن في مواضع كثيرة و ليس توسلا بالمجهول. بل أن عامة أدلة وجود الله و دلائل النبوة تعتمد على هذا الأصل و أن هناك ظاهرة أو آية لا يمكن تفسيرها ماديا لأنها لا تدخل في قدرات الطبيعة و لا قدراتنا و لذلك تدل دلالة مباشرة على مرسلها الذي هو على كل شيء قدير و بكل شيء عليم. و من لم يفهم هذا الأصل فهو لم يفهم شيء من أدلة وجود الله العقلية و لا دلائل النبوة لأن الضابط واحد فيهم جميعا.
3-اذا كانت قوانين الفيزياء يمكنها أن تفسير وجود الكون بكل ما فيه (بما في ذلك وجود القوانين نفسها ) فهذا يسقط دلالة حدوث الكون على الخالق و هذا ما يسمي بنظرية كل شيء التي يحلم بها الملاحدة و هذا هو التوسل بالمجهول في الحقيقة أو لو شئت فقل التوسل بالمستحيل.
4-اذا كان الوعي ماديا فلماذا لا تكون المادة واعية على مستويات أخرى لا ندركها و لماذا لا تكون هي التي تنظم نفسها؟ و لماذا يكون معتقد مثل وحدة الوجود مثلا غير منطقي ؟
5-إذا كان الوعي يمكن تفسيره ماديا فهذا يلزم منه نفي حرية الإرادة و الثواب و العقاب و من قال أليس الله بقادر على أن يخلق ارادة حرة مادية محكومة بقوانين الفيزياء؟ فهو بذلك لم يدرك معنى الإرادة الحرة و لا معنى قوانين الفيزياء و هذه نسخة جديدة من سؤال هل يستطيع الله أن يخلق دائرة مربعة؟ لأن هذا لا يتعلق بالقدرة لأنه مستحيل لذاته و نفس الشيء في الإرادة الحرة المزعومة لأن معنى القانون هو وجود خصائص محددة تتوفر إذا توفرت شروطها المحددة أيضا. و يكون هذا النسق متكررا فنغلفه بإطار وصفي اسمه القانون الطبيعي . فالقانون مثل الخط المستقيم الممتد في اتجاه واحد و في مسار واحد . و الإرادة الحرة تعني أن كل الاتجاهات متاحة و الا فهي ليست حرة. و لذلك فهي مثل الدائرة فكأنه يقول هل يستطيع الله أن يخلق دائرة خط مستقيم؟ . فلو كان هناك حجة لصاحب سؤال الدائرة المربع فهناك حجة أيضا لصاحب سؤال الدائرة الخط المستقيم. و هذه الحرية مختلفة تماما عن مقدار الحرية الموجود في احتماليات ميكانيكا الكم. فحرية الكم حرية عشوائية و الإرادة و القصد ينافيان العشوائية كما ينافيان الحتمية الكلاسيكية.
6-اذا كان الجن و الملائكة َو سائر الغيبيات كائنات فيزيائية فهذا منطق أبي جهل في التعامل مع الغيبيات حين سخر من شجرة الزقوم التي تنبت في النار و قال كيف ذلك و النار تأكل الشجر؟ فالغيب ما سمي غيبا إلا لأنه عالم آخر لا سبيل لمعرفتها في هذه الحياة الدنيا. فلا يمكن للحس التعامل معه و لا يمكن قياسه عقلا على عالم الشهادة "لأن كل منهما له قوانينه الخاصة " و إلا فلو طبقنا قوانين الفيزياء على الأخبار الغيبية فلا شك أننا سنكفر بأحدهما.
7-من يقول ان الملائكة كائنات فيزيائية لكنها فقط محجوبة عنا بستار و إذا رفع الله الستار فسوف نجد قوانينهم نفس قوانيننا و دليلهم في ذلك أن الأنبياء يتمكنون من رؤية و سماع الملائكة و لولا انهم كائنات فيزيائية لما تمكن الأنبياء من ذلك حتى بعد رفع ستار الغيب .
فالجواب عليهم هو أن المؤمنين سيتمكنوا من رؤية الله يوم القيامة و أن نبي الله موسى سمع الله في الدنيا و هذا كله يلزم منه وفق دليلهم أن الله هو أيضا كائن فيزيائي - حاشا لله - و هذا قول كفري بلا شك.
هذا كله و أكثر يلزم من يتحدث عن تلك الأشياء باعتبارها كائنات فيزيائية و هو يقصد علوم الفيزياء التي تحكم عالم الشهادة . أما اذا كانت الفيزياء و المادة التي يتحدثون عنها ليست هي الفيزياء التي يعرفها العلم و إنما هى قوانين أخرى "خفية" لا علاقة لها بالفيزياء التي نعرفها فهذا هو الهراء بعينه لأنه لن يكون هناك أي معنى حينها لتسميتها "فيزيائية" .
و لو راوغ هؤلاء و قالوا بل نقصد المعنى الفلسفي العام للوجود الخارجي فلماذا أخرجتم الله منه إذن؟
أليس وجود الله حقيقي خارج الذهن؟
و ما علاقة ذلك بتهمة التوسل بالمجهول التي تلصقونها بمن يرد على الإلحاد؟
هل سمعتهم أحدهم يقول من قبل أن الكائنات الحية و الوعي و الكون لا وجود خارجي حقيقي لهم (المعنى الفلسفي للمادة ) و هذا هو الدليل على وجود الله فجئتم تخبروننا أن هذه الأشياء لها وجود حقيقي لكي ننتبه إلى هذه المعلومة القيمة و نكف عن المغالطات المنطقية ؟
بل و الأكثر من ذلك..
ما معنى أن يقال عن المعلومات الموجودة في الكائنات البيولوجية انها مكون مادي و أن من يقول أنها غير مادية فقد توسل بالمجهول مع العلم بأن القائل يرى أن التطور لا يمكن أن يفسر وجود هذه المعلومات ؟
لغز كبير 😀
فسواء أريد بذلك المعنى العلمي للمادة أو الفلسفي أو المعنى الذي يكمن في بطن الشاعر حتى فلن تجد لهذا الهراء أي معنى.
لكنه للأسف التلاعب و المراوغة و الاستكبار عن الإعتراف بالخطأ الذي يجعل صاحبه يجادل بالباطل و يهرب بسبب إلزامات المعنى العلمي للمادة إلى المعنى الفلسفي ثم يهرب في النهاية إلى اللامعني.
و أخيرا فإن هذه الإلزامات لا ترفع عنهم إلا بالحجة و البرهان المنطقي أما قولهم أنهم لا يلتزمونها فهذا لا يعني أنها غير لازمة لأقوالهم و إنما يعني أنهم يجهلون لوازم قولهم و ليس عندهم تصور حقيقي لما يثرثرون به على هذا الأزرق.
تعليقات
إرسال تعليق