مفارقة سفينة ثيوسيوس

مفارقة سفينة ثيوسيوس


تطرح مفارقة سفينة ثيوسيوس (شخصية أسطورية يونانية) سؤال عن الهوية.


والسؤال هو: إذا استبدلنا كل ألواح السفينة القديمة بألواح جديدة وركبنا من الألواح القديمة سفينة أخرى فأيهما ستكون سفينة ثيوسيوس؟


ونفس الشيء يمكن طرحه حول كابتن كيرك بطل سلسلة ستار تريك والذي يستخدم آلة متطورة لتحلل ذراته وتقوم بإرسال مخطط بنسخة منها إلى مكان بعيد في الفضاء لتستقبلها آلة أخرى وتعيد تركيب ذراته بالكلية من المواد الموجودة في بيئتها أو إرسال المخطط إلى آلات كثيرة متفرقة في الكون. ولو فرضنا التطابق التام بين هذه النسخ والأصل فسوف يتبع ذلك سؤال أيهم الكابتن كيرك؟


بمثل هذا التساؤل بدأ السفسطائيون الجدل في اليونان القديمة وقالوا كل الأشياء متغيرة فكيف نثبت حقائق للأشياء وماهيات ثابتة لها؟


فكانت الإجابة الفيثاغورية بأن الأعداد هي الحقائق الثابتة التي تهب للأشياء وجودها.


وكانت الإجابة الأفلطونية بأن المثل هي الثابتة واعتبر أن هناك حقائق كلية (كليات عقلية) موجودة بشكل مستقل عن الأشياء في الوجود الخارجي وأن الأشياء لو كانت تحتاج في وجودها إلى هذه الماهيات الكلية فتلك الماهيات التي لا تحتاج إلى شيء ستكون أولى بالوجود من الأشياء المتغيرة وبهذا كان المذهب الواقعي.


ثم جاء أرسطو بنسخة مخففة تخرج الكليات المنطقية وتُبقى على الكليات الطبيعية كشيء موجود في الخارج ومرتبط بالأشياء المادية التي نعرفها. 


وبدأت لعنة الخلط بين الوجود الذهني والوجود الخارجي وبدأت الصنعة المنطقية في تقسيمات وتفريعات مهيبة لتضع فوارق بين الوجود والماهية وبين الصفات الذاتية والصفات العرضية اللازمة واعتبر الحد الأرسطي كاشفاً لحقيقة الأشياء وليس فقط مميزا لها عن غيرها ونتج عن ذلك شكل آخر للمذهب الواقعي الذي يعتقد بوجود الكليات في الواقع الخارجي ويعتقد أن الواقع متطابق لما في الذهن بل تابع له فالعقل يرصد المعاني الكلية الثابتة 


أما الحواس فتتعامل مع متغيرات لا تمثل قيمة معرفية وقبعت أوربا في هذا العقم الفكري ألفي عام إلى أن شاء الله لها الشفاء بالمنهج التجريبي الذي ورثوه عن نقد ابن تيمية للمنطق الأرسطي ومنهجية ابن الهيثم العلمية.


لكنه شفاء لم يدم طويلا حتى تبعه سخافات أخرى لا تنتهي حتى وصلنا في أيامنا هذه إلى الطبيعانية والظاهرتية واللاعقلانية والنسبية واللاواقعية والوجودية وغيرها الكثير.


وقديما حين وصلت لوثة الفلسفة اليونانية إلى عالمنا الإسلامي اختلطت بلحمه وعظمه وتشبع بها فقهاء وأصوليون وأئمة وأنتجت فلاسفة وفرق ومذاهب كلامية مازالت تتقاتل حتى يومنا هذا وتتسابق في نفي صفات الله وتأويل آياته لتوافق أصول هذا العبث الفلسفي العقيم بل وتنشد في معاركها الفكرية اليوم ضد الملاحدة الفرصة للتباكي على هذا المجد الضائع وإنعاش مومياء المنطق الأرسطي باعتباره أداة تعصم العقل من الزلل وأنها متجردة من كل الحمولات الميتافيزيقية.


وهذا عجيب لأن المذهب الإلحادي الطبيعاني الجاف أو المادية الاختزالية الإقصائية يصنفوا كل ما سبق على أنه وهم لا حقيقة له فلا وجود لشيء اسمه كابتن كيرك أو سفينة ثيوسيوس أصلا، وإنما الوجود فقط للجسيمات الأولية والطاقة التي تتفاعل بها أما السفن والأشخاص فهذه أوهام أو مسميات صنعناها نحن نتيجة تركيباتنا الثقافية والاجتماعية واللغوية، وهم بذلك إن كانوا قد نجحوا في التفريق الصحيح بين الوجود الذهني والخارجي إلا أنهم سقطوا في فخ اختزال الواقع فيما هو مادي فقط.


فضلا عن أنهم لن يعترفوا بخرافات الجوهر والعرض وسبق الماهية على الوجود ووجود المعاني الكلية في الخارج وفصل الذات عن الصفات والتفريق بين الصفات الذاتية واللازمة وما شابه ذلك من أصول القوم.


وكأني بابن تيمية وهو يستعرض الرؤية الوجودية والمعرفية لأفلاطون وأرسطو التي غُلفت بهالة القداسة عند فلاسفة المسلمين وسائر الفرق الكلامية من جهمية ومعتزلة وأشاعرة وغيرهم، ثم يتبعها قائلا "ولا يقول بهذا من يتصور ما يقول" وصدق والله لكن الناس تؤجر عقولها دائما لمن يدفع لها الثمن، وهذا الثمن كان ولايزال الإبهار والسلطة المعرفية.


وقد أسفر هذا الصراع الفكري عند الفلاسفة والمناطقة عن كوارث أخرى مثل إقرارهم بقاعدة "الذاتي لا يعلل والعرضي يعلل".


وقد انعكس هذا القبول على العقل العربي الإسلامي بجميع طوائفه بلا استثناء بل يبدو لي أنه قد تسرب أيضا إلى النحويين فجعلهم يفرقون بين النعت الحقيقي والنعت السببي.


وخطورة التسليم بهذه القاعدة رغم ما تبدو عليه من الصحة أنها تحصر سلطان السببية فيما هو متغير خارج عن أصل الماهية والصفات الذاتية التي لا يكون الشيء هو إلا بها وكأن السببية ليس لها دور تلعبه في وجود الذات ابتداء أو وجود ماهية الشيء نفسه وإنما يبدأ دورها في مرحلة لاحقة عن ذلك. وبالتالي يكون إثبات حدوث المكون الأصلي للكون (سواء كان جواهر أو مادة أو طاقة أو جسيمات أولية أو أوتار أو مجالات طاقة إلخ.. )

معتمداً على شيء آخر يتجاوز السببية في نظر من انطلق من قاعدة "الذاتي لا يعلل"


فتجد هؤلاء يقرون لك بأن الثلج محتاج للتبريد وأن البخار محتاج للتسخين وأنهم حالات مفتقرة لأسباب ثم يسألك لكن ماذا عن حدوث مادة الماء نفسه؟


فمثل هذا السؤال من قبل الملاحدة الطبيعيين (وأصحاب التصور الحتمي) ينم عن انطلاقهم من قاعدة "الذاتي لا يعلل" 


وكأن هناك ماء أزلي بصفات أزلية لكننا وجدناه وقد ارتفعت حرارته فنسأل ما الذي جعله ساخنا؟


وهذا كله سوء فهم للسببية وحقيقتها.


فالذات ما هي إلا مجموع الصفات وليست شيئا مستقلا يوجد بدون سبب أو بدون صفات ثم تأتي الأسباب بعد ذلك لإضافة الصفات المتغيرة أو الإضافية أو الأعراض.


و وجود الماء في حقيقة الأمر لم يحصل بطريقة مستقلة عن العلل والأسباب وإنما هو اجتماع هيدروجين بأوكسجين وكل عنصر منهما عبارة عن اجتماع نواة وإلكترونات والنواة عبارة عن اجتماع بروتونات ونيترونات وكل جسيم أولى من هذه الجسيمات له صفات محددة بسبب اجتماع ثوابت فيزيائية معينة وظروف أولية متعلقة بنشأة الكون ونحن نعلم الآن معادلات وشروط تكون/تلاشى هذه الجسيمات الأولية، كما ينطبق هذا أيضا على وجود الزمكان وكل ما هو محكوم بقوانين الفيزياء، وبالتالي فالذات والصفات كلاهما معلل ومفتقر لأسباب مسبقة ولا فرق أبدا في ذلك إلا أن تكون الذات بنفسها غنية عن الأسباب غير مفتقرة وهذا متحقق لله وحده عز وجل في ذاته وصفاته وأفعاله.


ولأبين الفرق بين الرؤية المعتمدة على منطق الافتقار السببي وبين الرؤية المعتمدة على منطق "الذاتي لا يعلل" سوف أضرب على ذلك مثالين:


1 - السكر صفته الذاتية أنه حلو المذاق فهل هذا يعني أن حلاوته لا تعلل؟


وفقا لقاعدة الذاتي لا يعلل ينبغي اعتبار الحلاوة صفة ذاتية للسكر لا تعلل لأنه لو فقدها تتغير هويته فلا يكون سكراً ولا يمكن القول بأن هناك علة جعلته حلو المذاق لأن هذا يعادل القول بأن السكر لم يكن سكرا حتى أتت تلك العلة فجعلته سكراً وهذا تناقض ونفي لماهية الشيء كما لا يخفى.


وعلى هذه المباني يكون وجود سكر غير حلو المذاق مستحيلا. 


لكن الواقع يكذب هذا التصور لأن هناك علة جعلت السكر حلو المذاق رغم أنها صفته الذاتية كما أنه يوجد سكر غير حلو المذاق هو (السيلوبيوز) والسر في تكون روابط ألفا أو بيتا بين الجزيئات أي أن هناك أسباب وتفسير علمي لو بحثنا عنه لوجدناه وليس الأمر اتفاقا بدون أسباب أو علل كما أكد لنا الأشاعرة ولا أن العلل لا تعمل على ما هو ذاتي متعلق بالماهية كما أكد لنا الماديين الحتميين.


2- نجد أن الغزالي وهيوم وعموم الأشاعرة طعنوا في ضرورة السببية بسبب تصورهم أن أخص خصائص النار أنها تحرق والحقيقة ليست كذلك وإنما أخص خصائص النار أنها مفتقرة لأسباب وجودها حتى تحرق وهذا أمر ثابت لا يتغير ولا يتبدل حتى لو تبدلت النار نفسها بنار أخرى لا تحرق لأنها حينها تكون نار أخرى وجدت بأسباب أخرى.


كما أن أخص خصائص الإنسان ليست أنه حيوان ناطق وإنما أنه مفتقر لأسباب وجوده حتى ينطق أو يكون على ما هو عليه وكان يمكن أن يخلقنا الله على صورة أخري وصفات أخرى أو من أصل آخر غير الطين فيخلقنا من صخر أو نار أو دخان أو نور لكن في جميع الأحوال سنكون مفتقرين لخالق.


فأخص صفة للمخلوقات جميعا أنها مفتقرة وأخص صفة للخالق أنه غنى قيوم صمد وليس حتى أنه واجب الوجود لأن الغنى فيه معنى الكمال بخلاف واجب الوجود الذي يمكن تصوره في شيء جامد طبيعي غير متصف بالكمال.

تعليقات