الأحد، 10 سبتمبر 2023

معاداة الواقعية anti realism

 السفسطائيون هم أول من قالوا بأن الحس هو مصدر جميع المعارف وهذا بالطبع يتناسب مع تشكيكهم في كل شيء بما في ذلك البديهيات, ثم خفت نجم السفسطائية بفضل جهود سقراط وأفلاطون وأرسطو إلى أن عادت مرة أخرى مع الفلسفة الحديثة والقول بنسبية الحقائق وعدم موضوعيتها بل والتشكيك في وجود العالم الخارجي نفسه أو التشكيك في قدرتنا على التعرف عليه بشكل صحيح وهذا بالطبع انعكس على فلسفة العلوم من عدة وجوه أبرزها ما يعرف بمعاداة الواقعية anti realism والتي هي فرع ينتسب صراحة إلى السفسطائية اليونانية القديمة لكن بصورة معدلة لتخدم نفس الأفكار، وغالبا ما يتم الترويج لمثل هذه الفلسفات البائسة من خلال بعض عجائب ميكانيكا الكم أو بعض تفسيراتها الكثيرة أو النزعات المثالية عند بعض مؤسسيها مثل نيلز بور, ليخرج علينا متحمسوها فيما بعد بنتائج خرقاء يهدمون بها العلم والحقيقة الموضوعية ويزعمون أنه لا يمكن الكشف عن حقائق هذا العالم وأن النظريات العلمية مجرد أدوات تقنية تساعدنا براجماتيا للحصول على احتياجاتنا لكنها لا توفر أي وصف حقيقي للعالم وأن الملاحظات يمكن إعادة تفسيرها ووصفها نظريا ورياضيا باستخدام نظريات أخري ونماذج رياضية أخري , ثم تصدى لهذه الأفكار فيزيائيون كبار مثل ديفيد دويتش وكذلك فلاسفة مثل هيلاري بوتنام لكن دائما السفسطة لها جاذبيتها حتى عند بعض المسلمين للأسف ظنا منهم أنهم سيقلبون سلاح الخصم عليه وما هم بفاعلين إلا إذا تلبسوا بالتناقضات وقد سبقهم إلى ذلك بعض فلاسفة النصارى مثل ميشيل دي مونتين الذي اشتهر باستخدام الفلسفة التشككية لمحاربة الإلحاد . ومثل هذه السبل لا يسلكها صاحب حق وإنما يتبعها أهل الأهواء فإذا تملك الشك المطلق من قلب المخاطب وغادر اليقين إلى غير رجعة أمكن حينها رفع أي علم والترويج لأي دعوة باطلة لأن الأمور كلها تصبح سواء.

وقد يظن بعضنا أن فلسفة العلم بالنسبة للعلوم هي بمثابة أصول الفقه للفقه وهذا خطأ شنيع لأن أصول الفقه تعتبر القواعد الكلية التي يشتق منها ويتفرع عنها الأحكام الفقهية في حين أن دور فلاسفة العلوم ينحصر في التأريخ وليس في التأسيس للعلوم. فهم لا يضعون القواعد الكلية التي ينتج عنها بعد ذلك العلوم كفرع مشتق وتفاصيل تحتكم في صحتها إلى تلك القواعد الكلية بل حتى لو كان هناك عقائد فلسفية مسبقة فهي خلفية غير مؤثرة لا تلعب دور المرجح أو الموجه لمسار تطوير النماذج وصياغة التجارب فموافقة النظرية الذرية لديموقريطس مثلا لا تعطي أي قيمة علمية لأفكار ديموقريطس ولا تجعلها أساس فلسفي حاكم للنظرية الذرية اليوم وإنما هو تشابه اعتباطي تماما مثل أن يوافق تاريخ عيد ميلادك تاريخ يوم استقلال سنغافورة مثلا. ولذلك يقول بول ديراك عن فلسفة العلم:

"لن تؤدي الفلسفة أبدًا إلى اكتشافات مهمة. إنها مجرد طريقة للحديث عن الاكتشافات التي تم تحقيقها بالفعل. "

وقريب من هذا يمكنك الوقوف على كلام لفيزيائيين كبار مثل فاينمان وآينشتين وهايزنبيرغ وغيرهم

ومن الأمثلة التي يعول عليها فلاسفة معاداة الواقعية كثيرا ,مثال عدم وجود تجربة أو مشاهدة يمكنها الترجيح بين نسبية لورانتيز التي تعتمد على وجود الأثير ونسبية آينشتين التي تنفي وجوده وهذا في الحقيقة مثال سقيم جدا لأنه من الطبيعي أن يكون هناك صعوبة في الفصل بين نظريتين لهما نفس التنبؤات لأن إحداهما مبنية على الأخرى في الأساس فآينشتين بني النسبية على تحويلات لورانتيز و هذا الأخير جعل الأثير لا يتحرك كتعديل ad hoc لينقذ نظريته بعد النتائج السلبية التي جاءت بها تجربة ميكلسون ومورلي وأثير لا يتحرك ولا يتكون من مادة هو في الحقيقة مثل نسيج الزمكان الذي قدمته النسبية العامة حتى إن لورانتيز نفسه ظن أن آينشتين قد عاد للقول بوجود أثير فبين له آينشتين أنه يمكن اعتباره أثير لكن بمفهوم جديد فالأمر ليس بهذا التفاوت الذي يحاول البعض تصديره ليبني عليه نتائج خزعبيلة مفادها أن الأدلة التجريبية متكافئة ولا يمكنها الترجيح بين النظريات العلمية المختلفة.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

Translate