حوادث لا أول لها وجدل لا نهاية له


الزمن في مفهومه الفلسفي (وليس الفيزيائي) لا يعد شيئا وجوديا وإنما هو شيء اعتباري ذهني نقدره بتتابع الأحداث فلو افترضنا عدم وجود أي حوادث مخلوقة فهذا يعني أننا لا نستطيع تقدير الزمن ولا يعنى أبدا أنه لا يوجد زمن يمكن تقديره من حيث المبدأ. أما الزمن الفيزيائي فهو أحد شروط ومكونات هذا الكون ولذلك يقال عنه البعد الرابع ويتأثر جريانه بالسرعة والكتلة وعوامل سببية فيزيائية أخرى.

وحتى ينضبط الجدل حول دليل الحدوث يجب التفريق بين المفهوم الفيزيائي والفلسفي للزمن كما يجب التفريق بين أنواع اللانهائيات وأخيرا يجب التفريق بين التسلسل السببي والتسلسل الغير سببي.

السلسلة السببية (1) هي سلسلة المؤثرين أو الفاعلين التي يمتنع امتدادها إلى مالا بداية أو قيامها بنفسها ويكون وجود كل فرد فيها ناتج عن وجود فرد آخر  Essentially  causal series.

أما السلسلة الغير سببية فهي سلسلة الآثار التي يمكن أن تمتد إلى ما لا بداية لكنها لا تقوم بنفسها أيضا والتي لا يكون فيها الفرد السابق سببا في وجود اللاحق  Accidentally ordered series 

ولأن وجود الله في هذه اللحظة ليس بسبب وجوده في اللحظة السابقة وإنما هو سبحانه وتعالى قائم بنفسه كان تسلسل الزمن إلى ما لا بداية ممكنا وليس ممتنعا في حقه وكذلك تسلسل أفعال الخالق إذ أن كل فعل منها علته ذات الله وليس فعلا آخر فهذا تسلسل غير سببي أيضا والله يفعل منذ الأزل ما يشاء بلا بداية كما أن وجوده ليس له أول. 

ولو سألنا المتكلمين الذين يقولون إن الله ليس زمانيا أو أنه لا يجري عليه زمان لأنهم يمنعون قيام الحوادث به عز وجل لمنعهم أن تكون تلك الحوادث لا أول لها وقلنا لهم:

إذا أراد الله إيقاف كل الحوادث لفترتين منفصلتين (سكون 1 ثم حوادث 1 ثم سكون 2 ثم حوادث 2) فهل يستطيع أن يجعل إحداهما (سكون 1) أكبر من الأخرى (سكون 2) أم أنه بحاجة إلى وجود الحوادث ليتمكن من تقدير تفاوت الزمن بينهما؟

والجواب حتما أنه يقدر لأن القول بعدم القدرة والحاجة إلى الحوادث ممتنع في حق الله وإذا كان يوجد تفاوت زمني في غياب كل الحوادث المخلوقة فقد ثبت المطلوب وهو وجود الزمن الاعتباري حتى في غياب كل الحوادث المخلوقة.

ولو قيل إن تقدير زمن السكون مستحيل لذاته فلا يتعلق بالقدرة.
قلنا بل تقدير زمن السكون واجب وإلا فلم يخلق الله حوادث 1 إلا بعلمه لحد انتهاء فترة سكون 1. 
فضلا عن أن سكون 2 ستأتي بعد سكون 1 بالرغم من أن مفهوم القبلية والبعدية ليس له وجود عندهم إلا داخل إطار حوادث 1 وحوادث 2

بل حتى لو افترضنا أن تقدير مدة السكون بدون وجود الحوادث مستحيل أو ممتنع لذاته فعلم الله يشمل المستحيلات أيضا وإنما القدرة فقط هي التي تتعلق بالممكنات ونحن هنا نتحدث عن تقدير زمن اعتباري وليس خلقا لشيء وجودي فهذا علم وليس خلق متعلق بالقدرة.

 فهذه كلها تناقضات يبتلعها القوم بصدر رحب لأنهم يمنعون كل أنواع التسلسل ولا يفرقون بين تسلسل مؤثرين سببي ممتنع لذاته وبين تسلسل آثار غير سببية جائز.

وأول من قال بامتناع التسلسل مطلقا هو جون فيلوبونوس (يوحنا النحوي) (2) وذلك حين تتبع تقسيمات أرسطو للمالانهاية (محتملة ومتحققة)  actual infinite وpotential infinite واستخدمها في الرد عليه وعلى غيره من الفلاسفة القائلين بقدم العالم ثم تلقفها منه جمهور المتكلمين وطورها وجعلوها مرتكز حجتهم لإثبات وجود الخالق واعتمدوا في ذلك دليل التطبيق وأصبح من مسلماتهم أن ما تسلسل لم يتحصل وأن التفاوت فيما لا يتناهى محال.

ثم جاء جورج كانتور بنظرية المجموعات وأثبت أن اللانهائيات تتفاوت وأن منها أحجام cardinality مختلفة صغيرة وكبيرة (3) (4). فمجموعة الأعداد الحقيقية أكبر من مجموعة الأعداد الطبيعية رغم أن كلاهما لانهائي. لأننا لو أخذنا كل رقم من الأرقام الحقيقية ووصلناه بنظيره ( one -to -one - correspondence ) من الأعداد الحقيقية سوف يتبقى حتما أعداد حقيقية ليس لها نظائر في مجموعة الأعداد الطبيعية. 

كما وضح أن هناك لانهائيات غير قابلة للعد (5) uncountable infinities ولانهائيات تتجاوز حدود الرياضيات والعقل البشري جعلها قسماً خاصاً بكمال الخالق وحده (6) Absolute Infinite 

لكن عندما يرتبط مفهوم اللانهائية بمفهوم السببية تظهر التناقضات مباشرة
فالمقصود بالمجموعة في نظرية المجموعات  set theory هي الخصيصة أو السمة المميزة التي يندرج تحتها مجموعة عناصر مثل أن نقول مجموعة الأعداد الطبيعية [....1,2,3,] فهي لن تضم بالضرورة الكسور والأعداد السالبة والصفر.

ولو قلنا مجموعة [الكائنات الحية] فسوف تضم تلك المجموعة، مجموعة [الحيوانات] ومجموعة [الأعضاء] ومجموعة [الأنسجة] ومجموعة [الخلايا] لكنها لن تضم مجموعة [الذرات] و[الجزئيات] لأن هذه الأشياء لا تعتبر ضمن الأحياء.

ولأن مفهوم السببية له تعلق بمفهوم الخصائص المميزة والحدود الفاصلة بين السمات نجد أننا لو بحثنا عن وحدة بناء هذه المجموعة فسوف تكون مجموعة [الخلايا] لأنها المجموعة التي لا تضم أي شيء آخر يمكن وصفه بالحياة بخلاف مجموعة [الحيوانات] مثلا التي تضم مجموعة [الأعضاء] ومجموعة [الأنسجة] ومجموعة [الخلايا].



وهذه هي مسلمة التأسيس (7)  Axioms of Foundation التي تجعل المجموعات تقف عند عنصر واحد على الأقل يكون هو أساس السمة فلا يمكن النزول إلا ما لا نهاية وإنما يجب أن يكون هناك أصل ترتكز عليه المجموعات ولا يمكنها تجاوزه.

كما تمنع مسلمة التأسيس أيضا قيام المجموعات بنفسها وإلا سوف تظهر مفارقات مثل مفارقة فندق هلبرت ومفارقة الحلاق لراسل (8) التي تقول إن هناك قرية بها حلاق يحلق لكل الذين لا يحلقون لأنفسهم في القرية فمن الذي يحلق للحلاق؟
إذا كان هو الذي يحلق فهو إذن ليس الحلاق الذي يحلق "للذين لا يحلقون لأنفسهم"

وإذا كان هناك من يحلق له فهو إذن ليس الحلاق الذي يحلق "لكل" الذين لا يحلقون لأنفسهم وبالتالي فهذا الحلاق لا يمكن أن يوجد بهذا الوصف.

ولذلك نقول دائما أن امتناع التسلسل السببي اللانهائي هو الذي يمنع قيام الطبيعة بنفسها ويمنع امتدادها في الأزل وهو المرتكز الصحيح لدليل السببية وليس الأمر كما ذهب المتكلمون من نفي مطلق التسلسل اللانهائي بما في ذلك تسلسل الآثار الغير سببية مما تسبب لهم في ثغرات برهانية وفي تأويلات شرعية باطلة. 

تعليقات