الموت والحياة -الجزء الأول -



فى سنة تخرجي من الجامعة وقبل موعد امتحانات نهاية العام بيومين تقريبا تُوفِّيت أمي –رحمة الله عليها- وكان ذلك فجأة وبدون أي مقدمات...أذكر يومها حين اشتد غضبي على طبيبة الطوارئ وقلت لها بلهجة منفعلة لماذا لا تسرعون فى اسعافها؟ فقالت بهدوء مفرط :لأنها بالفعل ميتة....فقلت لها ماذا تعنين "بميتة"؟ هيا قومى حالا بصدم قلبها كهربائيا وأيقظيها… فقالت مرة أخرى : لقد ماتت….

وكأن هذا اليوم هو أول يوم أسمع فيه عن شيء اسمه "الموت"... حينها فقط شعرت بتلك الرهبة المتعلقة بالموت وتفجرت برأسي عشرات الأسئلة حول حقيقة الموت والحياة.
فقد نتفهم جميعا أن المشاعر من طبيعتها الغموض وغياب الحدود الواضحة  لكن العجيب حقا أننا إذا نظرنا للموت والحياة من وجهة نظر العلم فلن يقل غموضها بل قد يزداد!!

لا يوجد تعريف للحياة متفق عليه  بين العلماء لأننا لو اعتبرنا الأشياء الحية هى تلك التى تتكاثر ذاتيا فهذا يجعلنا نستبعد الأنواع الهجينة مثل البغال من قائمة الحياة لأنها عقيمة لا تتكاثر. وعلى الجانب الآخر نجد أن كريستالات الملح يحفز وجود بعضها تكون المزيد منها فما تقوم به أشبه بالتكاثر لكن لا يمكن أن يعتقد أحد أن ملح الطعام الموجود على مائدته كائن حى.

أيضا لو اعتبرنا الحياة هى تلك الأشياء التى تحكمها قوانين التطور -من وجهة نظر من يسلمون بصحة نظرية التطور- فهذا يعنى أن كل فرد منا ليس بكائن حي لأن التطور يفترض به أنه يعمل على المجتمعات وليس على الأفراد.
ولذلك فالعلماء متفقون على أنه لا يوجد تعريف صحيح جامع للحياة أو الموت ومع ذلك لا أحد فينا يجهل ما هى الحياة وما هو الموت ولذلك يتم الإعتماد على الصفات الظاهرة المعروفة عن الحياة والموت.

نفس مشكلة التعريفات هذه ظهرت منذ 70 عام تقريبا حين أراد ألان تورينغ أن يضع تعريفا للذكاء الاصطناعى ولم يستطع لأنه لا يوجد تعريف للوعى البشري الطبيعى أصلا فتجاوز ذلك بتصميم اختبار يسأل فيه شخص ما الحاسوب مجموعة أسئلة بدون معرفة هوية المجيب ومن خلال الإجابات يستنتج هل كان هذه المجيب بشرا أم برنامج حاسوب. 
فلو تمكن البرنامج من محاكاة إجابة البشر حتى ينخدع السائل فيظن أنه شخص حقيقى يكون بذلك قد تجاوز الإختبار.
فحقيقة  اختبار تورينغ Turing test أنه يحاول تقييم مدى محاكاة الذكاء الاصطناعى لبعض خصائص الوعى وليس أنه يحاول إثبات أن الآلات واعية حقا.
واستراتيجية تورينغ هذه استخدمت فى البيولوجى أيضا كمقياس لتقييم مدى نجاح الخلايا الاصطناعية Artificial cell فى محاكاة الخلايا الطبيعية فهذه الخلايا الاصطناعية لا يتم صنعها من مواد حية ولا تقوم بعمل الخلية الحية لكنها تحاكيها في وظيفة ما.
مثل بحث(1) شريف منسي الذى قدم فيه مع فريقه خلية صناعية يمكنها خداع الخلية الحية و إيهامها بأنها أيضا خلية حية مثلها ويمكن أن ترسل لها وتستقبل منها رسائل كيميائية تماما كما أوهم الحاسوب السائل أنه شخص واع. فما صنعه منسي ليس بالطبع خلية حية ولم يقترب من ذلك وإنما صنع شيء يمكنه محاكاة أحد التفاعلات الكيميائية بين الخلايا.
هذه النوعية من التجارب تندرج ضمن مجال الأحياء الاصطناعية synthetic biology والذي بدأ فى أوائل القرن العشرين حين تمكن العلماء من صنع مركب عضوى فى المعمل هو اليوريا وكانوا من قبل يظنون أن الكيمياء العضوية –التفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل أجسام الكائنات الحية- لا يمكن إنتاجها فى المعامل. ثم تم انعاش المجال مرة أخرى بتجربة ميلر الشهيرة التي أنتج فيها بعض الأحماض الأمينية داخل المعمل. لكن التطور الحقيقي لهذا المجال بدأ فى عام 2000 حين امتلكنا تقنيات قص ولصق الجينات واستطعنا تعديلها بسهولة وبتكلفة رخيصة نسبيا.
ورغم أن الخلية الحية الواحدة تعتبر عالم كبير من الغموض وما نجهله فيه أكثر مما نعلمه حتى الآن (2) (3) إلا أننا بتنا نسمع كثيرا عن دعاوى صنع خلية حية من الصفر from scratch لكن الحقيقة أن كل هذه المحاولات هى مجرد محاكاة لأحد وظائف الخلية فنحن لا نعلم كل المكونات الكيميائية للخلية ولا نعلم كثير من وظائف الجينات و البروتينات كذلك نجهل الكثير جدا عن الترتيب المعقد للتفاعلات التى تحدث فى الخلية كما أنه لا يمكن لأحد إحياء خلية بعد موتها فكيف يمكن لأحد ادعاء صنع خلية حية من الصفر؟!

فى مجال الخلايا والأحياء الاصطناعية يوجد طريقتان: من أعلى لأسفل Top-down و من أسفل لأعلى  bottom-up الطريقة الأولى هى طريقة كريغ فنتر وغيره والطريقة الثانية هى طريقة كيت أداملا وغيرها.

 الطريقة الأولى تحاول أخذ خلية حية وحذف الجينات منها حتى تصل إلى الحد الأدنى الممكن تواجده لكى تظل الخلية حية.
 والطريقة الثانية تحاول تجميع المكونات الأساسية للخلية–وهى فى الحقيقة غير معروفة- لصنع خلية أو محاكاتها من خلال مواد غير حية تقوم بنفس الوظائف التي تقوم بها الخلية الحية.

وفى كلا الحالتين يظهر لك عند تفحص ما يجرى أنه ليس صنع حقيقي لخلية حية.

كمثال على طريقة من أعلى لأسفل: فى عام 2016 قام فنتر وفريقه بحذف بعض الجينات من أصغر جينوم لكائن حي وهي بكتيريا الميكوبلازما Mycoplasma mycoides وعدد جيناتها الطبيعية 525 حتى وصل إلى خلية حية لديها 473 جين فقط ويفترض بهذه الجينات أنها الحد الأدنى الممكن لإيجاد الحياة. وطبعا الإعلام روج لهذا الحدث بأن فنتر صنع حياة من الصفر وأنه أوجد كائنا حيا لم يكن له وجود من قبل إلى غير ذلك من الفرقعات التي لا تصف حقيقة الأمر. 
لكن فنتر رغم كونه ملحدا إلا أنه كان صريحا فقد قال أن الأمر صادما لأنه من ضمن هذه ال 473 جين الأساسية نحن لا نعلم أى وظيفة ل149 منهم والأدهى من ذلك أن هناك 79 جين منهم لا وجود لهم فى أى كائن حي آخر. وقال أيضا (لقد كان المجتمع العلمي يعاني أساسا من الوهم بأننا كنا نعرف كل علم الأحياء. نحن حقا مثل كائنات فضائية من كوكب آخر نحاول معرفة ما تفعله هذه الأجزاء)(4)

وكمثال على طريقة من أسفل لأعلى: فى عام 2018 قام نيل ديفراج بما قيل عنه أنه الخلية الاصطناعية الأكثر شبها بالخلية الحية حتى الآن (5) (6) وهى عبارة عن كبسولات من السيلكون بجدارها منافذ وبداخلها معادن من الطين لأن الDNA  يرتبط بشدة مع الطين ثم تم إضافة الـ DNA  و tRNA و ريبوسوم وإنزيمات بوليميراز RNA  و الأحماض الأمينية وكل هذا وغيره تم نزعه من خلايا حية حقيقية ونقله إلى هذه الكبسولات وكان النجاح الذي سجلوه هو نشاط الـ DNA وإنتاج البروتينات التى بدأت فى الانتقال بين الكبسولات لكن واضح أن هذا ليس صنعا للحياة على الإطلاق وإنما هو مجرد تغير للحاوية التى تعمل داخلها النواة أو الخلية.

لكن ماذا عن محاولة إحياء الموتى؟

سمعنا كثيرا عن مشاهير وأثرياء دفعوا مبالغ طائلة لتحفظ جثثهم أو أدمغتهم حتى يصل العلم يوما ما إلى تقنية لإحياء الموتى.
هذه العملية تسمى Cryonics وهى بالمناسبة تعتبر علما زائفا (7) لأنه لا يوجد أى دليل علمى على إمكانية إحياء الموتى بتقنية ما فى المستقبل لأن هذه الجثث لو نجت من آثار التبريد فلن يتمكن أحد من إصلاح الدمار الذي تسبب فى الموت أصلا.
والذي يفعلونه فى هذه العملية هو التبريد السريع للجثة أو الدماغ فى النتروجين السائل عند درجة حرارة -195°C مع حقن مواد كيميائية لمنع الماء من تكوين كريستالات الثلج الحادة لأنها لو تكونت فسوف تمزق الخلايا وتتسبب فى دمار خلوي كبير. وهذه التقنية في الأصل تعتبر محاكاة لمرحلة السكون  dormancy التي يقوم بها كثير من الكائنات الحية حتى تتحسن الظروف البيئية مثل بذور النباتات وبعض الأسماك والضفادع والديدان والبكتيريا.
فعلى سبيل المثال يدخل ضفدع الخشب فى مرحلة السكون طوال فصل الشتاء البارد فى ألاسكا ويتجمد جسده تماما ويفرز بروتينات تمنع تكون كريستالات الثلج وبروتينات أخرى تخفض التفاعلات الأيضية إلى أقل قدر ممكن لكن هذا لا يعني أنها تتوقف عن الحياة تماما أو تموت ثم تعود للحياة مرة أخرى. لأنها تظل حية أثناء فترة السكون مهما طالت ويظل هناك تفاعلات داخل الخلايا بالرغم من قلتها و من الخطأ تصور أن الخلايا تموت أو تتوقف تماما عن التفاعل كما تقول ليلى ريتسما الباحثة فى هذا المجال (لكن ليس صحيحًا أنهم لا يفعلون أي شيء)(8)(9)
ولذلك فإن تجربة (10)  إحياء دماغ الخنزير بعد أربع ساعات من موته لم تكون إحياء فى الحقيقة لأن الخنزير لم يعد وعيه وإنما كانت بعض الخلايا قد دخلت فى مرحلة السكون أو كانت مازالت حية ثم تم انعاشها فأظهرت بعض النشاط الكيميائي لبعض الوقت.
لكن إذا أتمت الخلية عملية الموت الحقيقي أو التحلل الخلوي apoptosis أو تجاوزت مراحل معينة  فيه فلا يمكن بعدها الرجوع للحياة لأن إنزيمات الكاسبيز caspases تقوم حينها بتفتيت DNA و عضيات الخلية (9)

وأخيرا هل يمكننا أن نهرب من الموت؟

أثبت بول نيلسون وجوانا ماسل بالبرهان الرياضي (11)(12)(13) أن الهروب من الشيخوخة والموت مستحيل في حقنا وحق الكائنات متعددة الخلايا عموما.
لأن الكائن متعدد الخلايا لو طال عمره بالهروب من الشيخوخة فسوف يقضي عليه السرطان ولو طال عمره بالهروب من السرطان فسوف تقضي عليه الشيخوخة ولا يمكنه الهروب من كلاهما معا.
الاستنتاج الذى خرجت به هذه الورقة كان مهم جدا والطريقة التى وصل بها هؤلاء الباحثون لهذا الاستنتاج لا تقل عنه أهمية. 
نتيجة البحث تخبرنا أن الموت هو القدر المحتوم الذي لا مفر منه بالنسبة لنا كأفراد لكن الطريقة التي سلكها البحث لإثبات ذلك يمكنها إثارة تساؤلات واسعة حول إمكانية بقاء واستمرار الحياة فى النظام البيولوجي ككل في حالة استخدامنا لآليات نظرية التطور والاكتفاء بها لتفسير ظاهرة الحياة وهذا ما سوف نتناوله في الجزء الثاني من المقال بإذن الله.

قال تعالى :

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

 

تعليقات