الأربعاء، 30 أكتوبر 2019

بعدية المعرفة 2


بعدية المعرفة تعنى أن المهارات العقلية + الخبرة الحسية يمكنهما إنتاج المعرفة بدون أى بديهيات أولية سابقة مثل الهوية أو عدم التناقض أو السببية.
و هذا يعادل افتراض أن  العقل يمكنه البدأ من تجويز اجتماع النقيضين و الترجيح بدون مرجح ثم باستخدام الحواس في استقراء الواقع يستخلص البديهيات الأولية من خلال التجريد و التعميم و نحو ذلك.
و الآن نحلل هذا القول و ننظر في تبعاته :
1- تجريد شيء هو الوقوف علي أصله و هويته و سماته الأساسية و مستحيل أن تقف على أصل الهوية و أنت تجوز ألا يكون الشيء هو نفسه و مستحيل أن تعرف الفرق بين أصل الشيء و سماته الأساسية في حين أنه يستوى عندك وجود الفرق و عدم وجوده بين السمات الأساسية و غير الأساسية و بين ما هو أساسي و ما هو غير أساسي لأنك تجوز اجتماع النقيضين و أيضا لا معني لعملية الترجيح هذه كلها و أنت تجوز الترجيح بلا مرجح بل كيف تتعرف علي السمات و الخصائص و هى عبارة عن الحدود التي تبين الافتقار السببي و أنت تري أن وجود حدود للعجز تقف عندها الخواص فتتحدد سمات الشيء  لا يعني عدم إمكانية تجاوز هذه الحدود بدون سبب .
و الأمر ليس خاصا بتجريد صفات المحسوسات فقط و إنما بتجريد المعانى أيضا فتجريد النظام الرياضي هو محاولة الوصول لمسلمات هذا النظام أو الأوصاف العامة التى تصف كل الجمل الصحيحة داخله.
فمثلا مسلمات الأعداد الطبيعية Peano arithmetic
هي
1-الصفر عدد طبيعي
2-كل رقم طبيعي له خليفة من الأرقام الطبيعية
3- الصفر ليس خليفة لأي رقم طبيعي
4- الأرقام الطبيعية المختلفة لها خلفاء مختلفون
5-إذا كان هناك مجموعة تحتوي علي الصفر و خليفة لكل رقم في تلك المجموعة فإن هذه المجموعة تضم الأعداد الحقيقية.
هذه المسلمات تصف نظام الأعداد الطبيعية فكأننا نظرنا في الأرقام و صفاتها و خصائصها فاستخلصنا و جردنا هذه المسلمات الخمس.
لكن غودل أثبت في مبرهنتيه الشهيرتين لعدم الاكتمال أن هذا المسلمات المتسقة لا يمكن أن تعمم و تثبت اكتمالها من داخل النظام الذي تصفه و لا من خلال برهنة بعضها ببعض و إنما ستحتاج إلي نظام أشمل و مباديء أوسع من هذه المسلمات (أو كما يسمونها نظرة عين الطائر) لكي تبرهنها و هذه المباديء الأشمل  تنتمي بدورها إلي نظام آخر أوسع و هذا ليس مرتبطا بنظام معين أو بمسلمات معينة و إنما هي قاعدة عامة
فالمسلمة الخامسة خصوصا احتاج اثباتها إلى مسلمات نظام أوسع منها هي مسلمات Zermelo–Fraenkel set theory, لأنها تعتبر مسلمة لوصف خواص نظام الأعداد الطبيعية نفسه اكثر منها كمسلمة لوصف خواص الأعداد الطبيعية.
وهكذا لا يمكن إثبات الاتساق و الاكتمال من داخل النظام فيظل دائما غير مكتملا بذاته بصرف النظر عن المسلمات التي تستخدمها لوصف النظام.
و بالتالي فالتجريد عبارة عن عملية منطقية و استخلاص لمسلمات النظام أو الوقوف علي التماثل و الاختلاف في المحسوسات و هذا كله مستحيل بدون بديهيات يثبت أن التماثل ليس هو الاختلاف و أن هناك سمات سببية تعمل كمعيار للتماثل و الاختلاف.
ثم بعد ذلك إذا أردنا الانتقال إلي تعميم رياضي( مطلق يقيني ضروري) فلا يمكن أن يكون هذا التعميم مستندنا علي أحد مدخلات النظام و لا حتي أحد مسلماته و إنما سيحتاج الأمر قطعا إلي مسلمات تنتمي إلي نظام آخر أوسع و أشمل يكون بمثابة الأصل لهذا النظام و المحور الذي يرتكز عليه.
أي أن البديهيات هي أصل كل خطوة للتقدم داخل النظام لتجريده و هي أيضا أصل كل تعميم رياضي يمكن وصفه بالضرورة المطلقة أو الصحة أو البرهنة الرياضية لأن هذا التعميم وفقا لغودل لا يمكن أن يستند إلي مدخلات النظام أو مسلماته المجردة و إنما يستند إلي أصل أوسع و أكبر و أشمل حتي ننتهل إلي البديهيات التي هي أصل كل معرفة ممكنة.
غودل يقول أن أي نظام منطقي أو رياضى متسق لا يمكن أن يكون مكتملا لأنه بداخله ستبقي و لو  جمل واحدة  صحيحة لا يمكن إثبات صحتها من داخل النظام.
و المقصود بالاتساق هو الخلو من التناقضات أي أننا لا  نثبت أن الجملة الفلانية صواب من خلال بعض المسلمات  و خطأ من خلال البعض الآخر.
و المقصود بالاكتمال هو التعميم علي كل جمل النظام.
فلو قلنا أن هناك عدة مسلمات لوصف نظام معين هو السيارة مثلا و هذه المسلمات هي أن يكون هناك ثلاث عجلات علي الأقل و أن يكون هناك محرك و أن يتصل هذا المحرك بعجلة واحدة علي الأقل فيمكن أن نقول أن هذا الوصف ينطبق علي السيارات لكن لا يمكن أن نثبت أن كل ما ينطبق عليه هذه المسلمات سيكون سيارة لأن هناك أشياء مثل التي في هذه الصورة

تحكم المسلمات بصحتها و مع ذلك هي ليست سيارة و سيحتاج التعميم أو إثبات الاكتمال لمسلمات أعلي من تلك المسلمات التي تصف السيارة و ستنتمي حتما لنظام منطقي أوسع.
2-  زعم التجريبية أو البعدية أن  الطفل يولد كصفحة بيضاء ثم يستخلاص البديهيات من الحس  (و هذا حتى خلاف الأبحاث العلمية الحديثة)*  يمكن تفنيده بأن يجرب كل منا الآن و هو بالغ أن يبدأ من افتراض غياب البديهيات أو تجويز نقيضها و ينظر هل يمكنه أن ينتج  أي معرفة ممكنة سواء استقرائية أو استنباطية!!
3- لو افترضنا جدلا أن الأمر جائز و أن الذي وقع كان تداعى أفكار و تجميع صور علي طريقة هيوم و الحسيين أو ما شابه فهل يمكن أن نصل بذلك إلي أى ضرورة عقلية أم سنصل فقط إلى الاحتمال و الاطراد الممكن و الكليات الاستقرائية و ليس الضرورية لأن الاستقراء ناقص لا محالة و هذا بالطبع لا يعني  أن المعرفة الحسية لا تفيد العلم بل هي شرط دراسة أي ظاهرة طبيعية لكن الإشكال هنا في تحديد مجال هذه المعرفة التجريبية الحسية و أين تكون صالحة و أين لا تكون كذلك أو بعبارة أخري إذا كانت البديهيات هي نتاج لوظائف العقل + الحس فلا يمكن أن أطبق ذلك علي واقع خارجي لم تصله حواسى.
4- إذا كان إطار حكم البديهيات  هو نفس إطار العلم التجريبي المبني على الاستقراء فإنه ينبغي أن نقول بمقتضى خبرتنا الحسية أن هذه القوانين العلمية و البديهيات العقلية صحيحة في كوننا و تكون تلك هي نهاية معارفنا. لكن لا العلم و لا البديهيات في هذه الحالة  يملكون مستندا لنفى وجود خبرات حسية أخري يمكنها تخطئة هذه البديهيات و إنشاء غيرها.
5-إذا كان مفهوم التناقض عندنا نفسه نشأ من مفهوم العدم فكيف فرقنا بين المستحيل العقلي (دائرة مربعة) و المستحيل الفيزيائي (غليان الماء عند درجة صفر) إذا كانوا عندنا سواء في باب المشاهدة و الحس؟ 
ختاما... البديهيات ضرورية صحيحة بذاتها لا يمكن افتراض نقيضها لأنه لا يمكن بناء أي معرفة عقلية أو حسية بدونها (لازم قول القبلية) و ليس لأن هذا هو أقصى امتداد لخبرتنا الحسية الناقصة و أصح ما يمكن استخلاصه مما يجعل البديهيات صحيحة بغيرها (الحس) و محصورة فيه و لا يمكن أن تحكم بعدم وجود خبرات حسية أخري يقع فيها خرق البديهيات و انشاء بديهيات مضادة (لازم قول البعدية).. مما يبين أهمية هذه القضايا فى سجال الملاحدة فصحيح الملحد لا يعنيه اعتقادنا في كيفية اكتسب الإنسان لمعرفة الضروريات لكن نقطة البداية معه هي إثبات الضرورة الذاتية للبديهيات  - و هذا نحسنه جيدا- بدون التطرق لكيفية اكتسابها لكن من يقول بالبعدية يلزم نفسه بلوازم تنفي هذه الضرورة.
___________________________
* الأمر مؤيد علميا أيضا... و هذا مجرد حصر أولي لمثل هذه الدراسات
1-تجربة علي أدمغة الفئران تبين أن هناك دوائر عصبية معينة تشفر المعلومات و هي ليست نتاج تعلم أو خبرة حياتية لأنها متماثلة في جميع الفئران منذ الولادة. و هي تجربة اعتبرت فاصلة في إثبات المعارف القبلية و الرد علي المذهب الحسي
https://www.pnas.org/content/early/2011/03/03/1016051108?sid=8ec3dfc7-2f2a-46db-8db4-d453e98b2040
https://actu.epfl.ch/news/new-evidence-for-innate-knowledge-3/
2-السلوكيات الفطرية في الحيوانات لا تحصي و لا يمكن أن تكون نتيجة تعلم لغياب الوالدين في كثير من الحالات أو لممارسة الفعل فور الولادة و من ذلك فعل الرضاعة المعقد ميكانيكيا في الإنسان من الولادة و هذا رابط تعليمي يعرض شيئا من هذه السلوكيات الفطرية
https://www.khanacademy.org/science/biology/behavioral-biology/animal-behavior/a/innate-behaviors
3- علي هذا الرابط مجموعة أبحاث تثبت أن الأطفال يولدون بمعارف قبلية ببعض قواعد الرياضيات و التي لا تحتاج إلي تعلم من الحس و لا تحتاج أيضا الي ترميز لغوي فليست اللغة هي إطار الفكر كما ادعي البعض و يمكن أن توجد معارف عقلية بدون وجود أي حصيلة لغوية.
و هناك أيضا نظام اسمه
parallel individuation system
و هو معرفة الطفل منذ الولادة بمعني الواحد و الاثنين و الثلاثة
و هناك نظام آخر اسمه
approximate number system
و هو معرفة أن كمية ما أكبر من كمية أخري بدون الحاجة لعدها و هو في الأرقام الأكبر من ثلاثة 
و كلا النظامين عليهم أبحاث و أدلة.. حيث أن الأطفال من عمر ستة أشهر  كانوا ينتبهون لتغير العدد بين مجموعات الكرات علي شاشة أمامهم و يدركون أن هناك تغير أساسي في نظام المجموعة الرياضي في حين أنهم لا يتفاعلون مع مؤثرات بصرية أكبر مثل تغيير لون الكرات أو شدة الوضوح و الإضاءة و ما إلي ذلك
و الدراسات منها ما يثبت تمييز الأطفال لبعض الأشياء  من عمر أربع أيام بعد الولادة و منها ما يثبته من ستة أشهر و منها ما يثبته بحاسة السمع دون البصر و غير ذلك
https://plus.maths.org/content/category/tags/innate-mathematical-ability
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

Translate