في الفصل الثاني تكلم كارول عن كيفية فهمنا للواقع من حولنا و بدأ كلامه بمغالطة كبيرة و هي أنه عرف الإيمان على أنه ( الاعتقاد بصحة شيء دون وجود دليل كاف يبرر هذا الاعتقاد) و كفى بها مغالطة أسس عليها ما بعدها. فنحن لا نتعامل مع الإيمان على أنه فروض ممكنة يتطرق إليها الشك و نراهن على صحتها و إنما نتعامل مع الإيمان على أنه يقين لأن أدلته يقينية و ملتصقة بالبديهيات التي لا يمكن بناء أي معرفة بدونها فهي لا تحتمل الشك و حين نقول لا تحتمل الشك فهذا لا يعني أن الإنسان أصبح إلها مطلق العلم و أنه حصل العلم الذي ليس فوقه علم و إنما يعني أنه حصل علم ثابت لا يشك فيه. كما لا يشك أنه موجود. و كلما زاد إيمان العبد زاد يقينه لكن كل درجات اليقين لا يتخللها الشك. فمثلا لو رأيت صورة شخص ما بالأبيض و الأسود فأنت على يقين أنها صورة شخص و لا تشك أنها صورة كلب أو قطة مثلا لكن لو تلونت هذه الصورة فستزداد معرفتك بتفاصيلها و لو كانت ثلاثية الأبعاد أو أصبحت متحركة صوت و صورة فستزداد المعرفة أكثر و أكثر رغم أن أدنى درجات المعرفة كانت أكيدة لا يتخللها شك.
و بناء على هذه المغالطة استرسل كارول في تقديمه للطريقة الصحيحة للتعامل مع معتقداتنا و هي الطريقة المعتمدة في المنهج التجريبي الذي يتعامل مع الفروض و يمزج بين الاستنباط و الإستقراء للاقتراب من الحقيقة بأقصى درجة ممكنة. و هذه الطريقة قدمها القس المغمور توماس بييز في القرن الثامن عشر حين قدم مبرهنته حول الاحتمالات Bayes’s Theorem و التي تجعلنا قادرين على تعديل نسبة الاحتمال بشكل مستمر وفقا للبيانات الواردة إلينا. أي أننا نبدأ بفروض معينة لكل فرض منهم درجة مصداقية ثم تظل هذه الدرجة تتغير زيادة و نقصا وفقا للبيانات الجديدة الواردة. مثل لو أن ولد تشاجر مع بعض رفاقه ثم أراد أن يدعوهم إلى حفل موسيقي فإنه سيبدأ باحتمال مسبق معين لقبولهم و ليكن 60% و احتمال لرفضهم و ليكن 40% و لكنه قبل أن يدعوهم مر أحدهم بجواره و ألقى عليه التحية فارتفعت مصداقية احتمال قبولهم الدعوة إلى 75% و انخفضت نسبة رفضهم إلى 25% و هكذا تضع المبرهنة أداة لتعديل مصداقية الاحتمالات وفقا للبيانات الجديدة دائما.
و يعتبر كارول أن الأشياء الغير قابلة للتعديل و دخول الشك عليها هي فروض سيئة.
لكن الحقيقة أن هذا معيار فاسد تماما لأننا أولا لا نتحدث في الإيمان عن فروض.
و ثانيا أن الوصول للإيمان و اليقين في وجود الله لا يعني الانغلاق و عدم قبول الأدلة المضادة إن وجدت. و إنما يعني فقط أن أدلة الصحة قوية و هي دائما مطروحة للمناظرة و المجادلة مع الخصوم قال تعالى( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فنحن لا نرفض الدليل المضاد إن وجد لكن الحقيقة أنه لم يوجد أبدا و لا داع لافتراض وجوده.
ثم يقول كارول أننا إذا ما طرحنا أسئلة مثل:
هل الله موجود؟
هل الوعي يمكن تفسيره فيزيائيا؟
هل هناك معيار موضوعي للصواب و الخطأ؟
فإن كل منا له عقيدة مسبقة بدرجة مصداقية معينة (سواء اعترف بذلك أم لم يعترف) و هذا ليس عيبا. و كلنا نقوم بتعديل درجة المصداقية هذه وفقا لمعلوماتنا الجديدة سواء قمنا بذلك بشكل صحيح أو خاطئ.
و هذا أوافقه عليه تماما إلا أنه يشترط أن تكون البداية بفروض ليس لها درجة مصداقية يقينية لكي يستقيم الأمر و هذا خطأ كما بينت لأنه ما دمنا يمكن أن نتنازل عن الإيمان إن تم هدم أدلته فنحن بذلك نتبع الدليل و لا نتبع دوجما عمياء مغلقة. و أما اشتراط الشك فهذا لا علاقة له باتباع الدليل و تعميم. و هذا مردود عليه بمبرهنة بييز نفسها لأنها و إن كانت تتعامل مع الفروض التي لا تكون يقينية إلا أن المبرهنة نفسها يقينية. فالمبرهنات الرياضية صحيحة لا يمكن الشك فيها و لا تحتاج إلى استقراء بيانات جديدة لإثباتها . فإذا كنت تقبل بفكرة وجود مبرهنات رياضية يقينية فتعميم الشك يكون غير صحيح.
ختم كارول كلامه بمغالطة أخرى و هي أننا لو فرضنا أن هناك اتساق تام بين كل الديانات على الأرض و روايات متطابقة منقولة و متواترة بين أشخاص لا يمكن أن يكونوا قد التقوا من قبل فهذا سيزيد من مصداقية الفروض الدينية و يجعلها تفسيرا أكثر استقامة من محاولة ارجاع هذا التوافق لأصول داروينية كامنة في الطبيعة الإنسانية . لكن الواقع المرصود يحكي خلاف ذلك فهناك اختلاف كبير بين الأديان و بالتالي تكون النتيجة هي انخفاض مصداقية الأديان.
طبعا هذه مغالطة قديمة جدا مارسها تقريبا كل المكذبين للرسل. فقد اقترح أقوام الأنبياء آيات معينة زعموا أنها هي الأدلة الصحيحة المطلوبة للتصديق بدعوة الأنبياء فإذا ما رفض الأنبياء الآيات المقترحة فرح المكذبين بذلك و اعتبروه دليلا مضادا لدين الأنبياء في حين أن الأنبياء أتوا بآيات أعظم فرفضوها و أعرضوا عنها فقد جعل فرعون دليل نبوة موسى الصحيح هو أن يلقي عليه أسورة من ذهب أو تأتي معه الملائكة و طلب مشركو قريش من النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا و هكذا كانت سنتهم دائما.
و لو كانت الديانات كلها على الأرض متفقة لرد الملاحدة ذلك لنظرية التطور كما أشار كارول بالفعل و لما آمنوا. لكن الاختلاف بين الأديان سنة يترتب عليها صراع الحق و الباطل و هو أصل الابتلاء في هذه الدنيا كما أن هذه الأديان بقى فيها بالفعل بشارات متفرقة عن النبي محمد و هذا يؤيد الإسلام. كما أن التواتر المطلوب حاصل بالفعل في الكتاب و بعض السنة رغم افتراق المسلمين إلى فرق و مذاهب كثيرة و رغم استحالة التواطؤ بينهم فهل سيدخل كارول الإسلام إذا علم ذلك؟
لا أظن، لكنه التعنت والعناد.
تعليقات
إرسال تعليق