(5) نقد كتاب شون كارول الصورة الكبيرة The Big Picture

ألطف شيء في كارول أن مذهبه طبيعاني ليبرالي و لذلك فهو مادة خصبة للتناقضات.
فهو يعتقد أنه لا وجود حقيقي سوى للطبيعة و في نفس الوقت يعظم الوعي البشري و حرية الإرادة.
و قد أطال النفس في محاولة إقناع القارئ بأن الوعي ظاهرة طبيعية حقيقية و ليس مجرد وهم.
و أنه يمكننا التعامل مع الوعي على أنه نظام شكلته عناصر طبيعية لكن هذا النظام يمتلك خواص مختلفة عن الأجزاء التي شكلته لأن وجود النظام نفسه يعد بيئة جديدة تؤثر على كل ذرة من ذراته بطريقة جديدة لم تكن موجودة قبل تشكل النظام.
و هذه محاولة بائسة من كارول لأننا لو فرضنا جدلا صحة المذهب الطبيعي حول الوعي - رغم أننا لا نعلم أي وسيلة لاختزال الوعي إلى عناصر طبيعية أولية تبرر من الأساس هذا الافتراض الطبيعاني بأن الوعي عبارة عن نظام فيزيائي أو ظاهرة منبثقة من مفردات طبيعية - فمع كل ذلك سيظل تأثير النظام على مفرداته هو تأثير فيزيائي من الخواص الممكنة  لتلك المفردات و ليس خاصية جديدة عليها و إنما ظهرت تلك الخواص فقط في البيئة المناسبة التي وجدت بوجود النظام الجديد.

فمثلا في المركبات الكيميائية  تكون خواص المركب مختلفة عن خواص عناصره لأن الروابط التي تنشأ بين جزيئات عناصره تكون مختلفة عن الروابط التي تنشأ داخليا بين جزيئات كل عنصر على حدة.
لكن الروابط الجديدة التي تكونت في المركبات هي أيضا من الخصائص الفيزيائية لتلك العناصر و لو استبدلنا عنصرا من عناصر المركب فلن نحصل على نفس المركب لأن العنصر الجديد لن يكون نفس الروابط.
و لذلك نقول أن تكوين الروابط بين جزيئات العنصر الواحد أو بين ذلك العنصر و بين غيره كلها تدخل في الخواص الفيزيائية للعنصر.
فالأوكسجين على سبيل المثال من خواصه المساعدة على الاشتعال إذا كان وحده و من "خواصه أيضا" إخماد الاشتعال إذا كان مرتبطا بالهيدروجين داخل جزئ الماء و هكذا.
فلا مجال للحديث مثلا عن خاصية من خواص المادة المضادة يمكن للأوكسجين أن يكتسبها في أحد المركبات لأن هذا ينافي و يضاد أي خاصية فيزيائية يمكن أن يمتلكها الأوكسجين أصلا.
فأنت في النهاية شئت أم أبيت تتحدث عن حتمية فيزيائية تضاد ذاتيا حرية الإرادة  و تتحدث عن  خصائص طبيعية هي التي تستحق أن توصف بالوجود الحقيقي لأن وجودها موضوعي لم نصنعه نحن.
و لذلك فعندما يريد الطبيعاني التحدث عن الوعي أو حرية الإرادة أو الجمال أو ما أشبه ذلك فعليه أولا  أن يعود إلى معياره الطبيعي ليختبر حقيقة وجود هذه الأشياء فقد تكون هذه الأشياء من الأوهام و قد تكون حقيقة فإن كانت وهما فالأمر منتهى و إن كانت حقيقة فوجودها لن يتجاوز الخواص الفيزيائية الممكنة للمادة لأنه ليس لها و لا لغيرها أي وجود مستقل عن الطبيعة وفقا للمذهب الطبيعي.
و إذا كانت الطبيعة في جميع صورها حتمية تتبع قوانين فيزيائية محددة فلا مجال لوصف شيء مثل حرية الإرادة بأنه حقيقي و لا معنى لوصف وعينا بأنفسنا و ما حولنا أو شعورنا بهويتنا المنفصلة عن مجموعة الذرات المكونة لنا بأنه شيء حقيقي. فهذه لوازم للمذهب المادي الطبيعي لا فكاك منها.
و نفس الشيء لو تكلمنا عن الأخلاق في ظل المذهب الطبيعي فحتي نثبت وجود فرق حقيقي بين مداعبة طفل لإدخال السرور عليه و بين اغتصابه يجب أن نجد فرق جوهري على مستوى الذرات يجعل العملية الأولى مسموح بها و الأخرى ممنوعة.
لكن كل ما يمكن وقوعه في عالمنا هو مسموح به فيزيائيا و من حيث المبدأ فليس هناك فرق جوهري بين أي حدث فيزيائي و حدث آخر لأن الجميع يتبع نفس القوانين الفيزيائية.
فعند رد الأمر إلى المستوى الحقيقي للوجود من وجهة نظر المذهب الطبيعي  نجد أن كلا الأمرين سواء و بالتالي فما نظنه من فروق هائلة بينهما هو مجرد وهم لا حقيقة له.

و بالعودة إلى كارول نجده يستقيم مع المذهب الطبيعي و لوازمه حين تكون العواقب على هواه.
فمثلا حين تناول موضوع المتحولين جنسيا لمجرد رغبتهم في التحول إلى جنس آخر، برر الأمر بأن وجود تصنيف ذكر و أنثى هو شيء يفرضه المجتمع في وقتنا الحاضر و أن الأمور ستتغير لأن هذا التصنيف لا وجود حقيقي له على المستوى الذري للطبيعة فهو من صنعنا نحن و الخواص البيولوجية يمكننا التلاعب بها فلا ينبغي التعامل مع هذا التصنيف على أنه شيء أساسي أو حقيقي.
و هذه الطريقة نفسها كان ينبغي أن يتعامل بها كارول مع الوعي و الإرادة الحرة لينتهي بأنهما أيضا  أوهام صنعناها نحن و لا وجود حقيقي لشيء من هذا على المستوى الذري للطبيعة.
لكن ماذا عن المتحولين نوعيا و ليس جنسيا؟ كيف ينبغي التعامل مع هؤلاء الذين يعتقدون أو يتمنون أن ينتمون إلى نوع آخر و ليس فقط جنس آخر داخل نفس النوع؟
مثل أن يعتقد أحدهم أنه كلب أو قط أو فأر و يبدأ يعيش حياته على هذا الأساس.
أو ما هو أسوأ من ذلك بأن يعتقد أنه تنين مجنح أو العنقاء مثلا.
الجواب التقليدي عن سؤال من أنا في المذهب الطبيعي هو كما ذكرنا قبل ذلك.... لا شيء أصلا اسمه أنا و لا أنت و لا وجود للأشخاص أو الهوية الذاتية فهذه كلها مجرد أوهام.
و من هنا يمكن بسهولة  توقع ردة الفعل مع من يقول أنا لي هوية خاصة و هي أنني تنين مجنح!!
لكن الطبيعانية الشعرية التي يقدمها لنا كارول تختلف في ردة فعلها مع هؤلاء.
فتقول أن السؤال الأهم  ليس من أنا و إنما ما الذي أحب أن أكون و ما الذي سينفعني أكثر لو كنته؟
فلو كان موضوع التنين المجنح هذا سيسبب لي مشاكل نفسية و صحية فلا ينبغي أن أصر عليه.
و الحقيقة أن هذا الحل النفعي الهزيل لا يمكن أن نتعامل به مع الصواب و الخطأ و الحق و الباطل و الأخلاق و القيم.
بل لو تأملنا في تحقيق النفع كغاية مادية نجدها غاية واهية فمن المنتفع إذا كان لا يوجد هوية أصلا؟ و ما هو الفرق الفيزيائي بين تحقيق النفع و عدم تحقيقه ؟ و إذا كان لا يوجد فرق و كلها أوهام في أوهام فالأولى بالملحد أن يتسق مع لوازم المذهب الطبيعي أو أن يتركه بالكلية و يعود إلى الفطرة . أما الإلحاد الطبيعاني الشعري الوسطى الجميل هذا فهو مثل محاولة وضع الزينة على القبور و التي  لن تغير شيئا من وحشة الموت.
تكلم كارول أيضا في أحد أجزاء الفصل الثاني عن كواكب الاعتقاد و قال بأنه لا حاجة لتأسيس برهان منطقي  صلب يثبت صحة الإلحاد أو يفند حجج المؤمنين و إنما  يكفي فقط جمع الأفكار المترابطة نوعا ما لكي تشكل ترجيحا لمنظومة الإلحاد الفكرية و تكون مثل الصخور المبعثرة التي تدمجها الجاذبية فتصير كوكبا.
أي أنه بعبارة أخرى، يكفيك أن تجمع بعض الشبهات على غرار ما يفعله الملاحدة العرب و تظل تقفز من بني قريظة إلى بول البعير و ما إلى ذلك بدون أن يكون هناك برهان واضح صحيح يقودك من مقدمة معينة إلى النتيجة اللازمة لها.
و هذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن الإفلاس الإلحادي ظاهرة عالمية و ليست خاصة بالملاحدة العرب.
ثم يعود كارول مرة أخرى في نهاية الفصل الثاني إلى مغالطة الآيات المقترحة و يقول لو أننا نعيش في كون بلا شرور أو أن المعجزات كثيرة و متكررة أو أن كل الديانات متفقة في تعاليمها و أخبارها و تصورها عن الخالق أو أن الأرواح تبقى بعد الموت و تعود و تتواصل معنا و تخبرنا عما وجدته في السماء، لكانت هذه أدلة قوية ترجح وجود الله و بما أن هذه الأمور لم تحدث فهذا يرجح الإلحاد.
و هذه الحجة المتهافتة كررها الكفار على مر العصور كما بينت سابقا و لا برهان فيها البتة و إنما هي مجرد مراوغة للإعراض عن مناقشة البراهين الصحيحة الكافية التي أقامها الله سبحانه و تعالى على وجوده في السماوات و الأرض و في أنفسنا و في آياته التي أرسلها مع رسله.
لكن و كأن الكفار على مر العصور يتواصون بنفس الهراء و نفس الطرق التي يردون بها دعوة الحق رغم اختلاف زمانهم و مكانهم و ثقافتهم و كل شيء.
و قد قال الله عز و جل عن ذلك ( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)

تعليقات