كل شيء في الوجود مادة.
ما الذي يجعلنا نلتفت لمثل هذه العبارة أو نقبلها؟
و ما هي المادة المقصودة هنا؟
هذه العبارة لو صدرت من ملحد فالمعني مفهوم لكن لو صدرت من مسلم فما الذي يريده بها و هل هو مصيب في ذلك؟
لو كان المقصود بالمادة هو مجرد الوجود الحقيقي الخارجي و بيان أنه لا يوجد مجردات ذهنية متجسدة في الواقع. فهذا له سياقه الضيق في سجال قديم مع المثالية و لا ينبغي أن يعمم مثل هذا الكلام أو يخرج عن سياقه و لا ينبغي أن يفترض المتحدث أن الناس اليوم اما على مذهب المثالية أو المادية فهذا الاستقطاب لا مكان له في عصرنا.
و أما إذا كان المقصود هو تلك المادة الفيزيائية التي نعرفها (كما يسميها البعض فيزيوكيميائية) . فهذا التعميم كان يصلح في القرون الوسطى أما الآن فالفيزياء لا تقول أن كل شيء فيزيائي هو مادة فضلا عن أن يدخل فيه المتحدث الكيانات الغيبية مثل الجن و الملائكة ( فقولنا أن هذه الكيانات الغيبية محكومة بالفيزياء مخالف للشرع و العقل و العلم ) . فمثلا هناك في الفيزياء ما هو ليس بمادة مثل مجالات الطاقة و الزمكان و البوزونات و غير ذلك مما لا يصح أن يقال أنه مادة و إنما يقال مادة فقط على الفيرمونات المحكومة بمبدأ باولي للاستبعاد.
فحتي الملاحدة الذين يتحدثون عن مذهبهم المادي الاختزالي اليوم لا يقصدون المادة بعينها و إنما يقصدون الأشياء التي تصفها المعادلات و ترصدها أدوات الرصد داخل علوم الفيزياء. و يقصدون أن هذه الطبيعة يمكنها أن توجد بكل مظاهرها بدون حاجة لإله خالق. و لذلك يبحثون عن التفسير المادي لكل ظاهرة.
و في المقابل فإن أهل الإيمان لا ينفون امكانية التفسير الفيزيائي لكل ظاهرة و أنما يرون أن لله آيات في الكون و هذه الآيات عبارة عن ظواهر تحمل دلالة خاصة و مباشرة على وجود الخالق لأنها لا يمكن أن تفسر تفسيرا ماديا و لا يمكن أن تكون انبثقت عن عمليات فيزيائية و لو كانت كذلك لفقدت دلالتها على الخالق . و من ينكر ذلك من الملاحدة نثبت له بالبرهان أن الظاهرة تتجاوز كل احتمال ممكن لتفسيرها طبيعيا. و من ينكر ذلك من المؤمنين فقد أنكر أن الله جعل للناس آيات في الكون ليتدبروها و يعلموا بها أن لهم خالق.
و لذلك عندما نقول أن الكائنات الحية لم تنشأ بآليات مادية كما تقول نظرية التطور فنحن نذكر أدلة لا يمكن لآليات التطور تفسيرها. و نفس الشيء عندما نقول أن الوعي و الإرادة الحرة لا يمكن تفسير وجودهما بالعمليات الدماغية رغم دور تلك العمليات في الوعي. و نحن بذلك لا نقصد تبني أحد النظريات الفلسفية في الوعي - و التي هي محض تخرصات غير قابلة للاختبار - سواء التي يندرج منها تحت مفهوم dualism أو monism
-و ان كانت فكرة مخالفة الروح الواعية لطبيعة الجسد و انفصالها عنه تدخل في مفهوم المثنوية dualism-
لكننا لا نقدم نظرية للوعي تشرح كيف يعمل الوعي و كيف يحدث الاتصال بينmental state وbrain state فنحن نعتقد أن الوعي خاصية للروح و لن نعلم كيف تعمل الروح و كيف تتصل بالجسد.
و إنما نقصد أن الوعي كظاهرة لا يمكن اختزاله في العمليات الدماغية الفيزيائية بشكل سببي يجعل الوعي مجرد إفراز طبيعي للدماغ أو ََ يجعله وظيفة ناتجة عن العمليات الدماغية حتى لو قيل أنه لا يمكن اختزال هذه الوظيفة في الدماغ كما لا يمكن اختزال خواص الماء في الهيدروجين و الأوكسجين لأن هذا كله يجعل الوعي ظاهرة ممكن تفسيرها بشكل طبيعي فيزيائي مما يلزم منه نفى الإرادة الحرة و إسقاط دلالة الوعي على الخالق .
تعليقات
إرسال تعليق