بعدية المعرفة

موضوع قبلية و بعدية المعرفة الذي تمت اثارته بين الإخوة في الفترة الأخيرة لم يشغلني من قبل  و لم يدخل في دائرة اهتماماتي لأنني لا أستخدم مثل هذه المباحث في محاججة خصومي المعتادين. و لولا أنني وجدت أن الموضوع له إلزامات تطعن في حجتنا أمام خصومنا من اللادينيين لما خضت فيه. 

قول البعدية هو : أن أصل كل معرفة هو الحس بما في ذلك البديهيات و يكون وسيلة هذه المعرفة هي العقل.
و قول القبلية هو: أن المعرفة مكونة من شق منطقي و آخر تجريبي و أن كلا الشقين تم بناءهما على البديهيات المودعة ابتداء في العقل.
من يقول بالبعدية - من اخواننا المؤمنين و لا أقصد هنا العلمويين- لا ينكر دور العقل في المعرفة و لا يجعل وظائف العقل في ذاتها مكتسبة من الحس و إنما يجعلها هبة خاصة من الله جعلت هذا الشيء المسمى عقلا به خصيصة أو به سر يجعله قادر على إنشاء المعرفة بشقيها المنطقي و التجريبي عند الاحتكاك بالواقع.
أى أن الفرق بين هذا التصور البعدي و بين ما ذكرته من قول القبلية هو تضمين "دور"  البديهيات داخل وظيفة العقل ثم تجريد العقل من كل شيء ما عدا وظيفته والتي يقرون بأنها غير مكتسبة من الحس و بالتأكيد أيضا هي غير مكتسبة من الأنسجة و الأوعية الدموية في قطعة اللحم التي نسميها الدماغ .  فما هي وظيفة العقل و من أين له بها؟
إذا سألنا ما هو هذا السر الذي أودعه الله في قطعة اللحم تلك. يكون الجواب هو أن العقل بذاته قادر على أداء وظيفة العقل.
اي ان سر وظيفة العقل هو وظيفة العقل!!
و هذا هو مكمن الخلل عندهم.
و لو تصور البعدي حقيقة قوله و بحث عن وظيفة العقل المودعة فيه ابتداء و التي لا ينفيها البعدي عن العقل كما نفى عنه كل شيء حتى البديهيات. سيجد أن هذه الوظيفة و هذه الممارسات العقلية القيام لها إلا وفقا لبرمجة مسبقة فيها الأسس التي لا يمكن بناء اي معرفة سواء كانت منطقية أو تجريبية إلا عليها و هذه البرمجة هي البديهيات.

لأن وظائف العقل من تجريد و تعميم و غيرها من العمليات العقلية - التي يفترض البعدي أن العقل  استنتج البديهيات و باقي المعارف من خلال اعمال هذه الوظائف في الحس- هي في حقيقة الأمر عمليات منطقية يستحيل قيامها بدون بديهيات أولية.
إذ كيف يعمم أو يجرد العقل مشاهدات يراها ثم يستنتج من خلالها بديهية السببية أو عدم التناقض. إذا كانت عملية التجريد أو التعميم نفسها عملية منطقية تحتاج في بنائها إلى بديهية السببية و عدم التناقض؟
ثم إذا كانت تلك البديهيات ناتجة عن استقراء الواقع فاللاأدري هو صاحب الحجة علينا قطعا في رفضه لتطبيق البديهيات و القواعد المنطقية خارج هذا العالم للاستدلال على خالق و يصبح فعلنا التعميمي هذا مغالطة منطقية صارخة و الواجب هو أن نلتزم بحدود استقرائنا التجريبية.
فمن عجائب القول بالبعدية أن من يشكك في البديهيات و يطلب الأسس المنطقية لها كنا نعده من المسفسطين لأن البديهيات معلوم يقينا صحتها بدون الحاجة للبحث عن أسسها المنطقية (و إن كنا نستطيع إقامة الحجة على من ينازع في هذه الأصول)
فما بال البعدية تثبت أسس "حسية" للبديهيات!!
فإن كانت السفسطة هي أن تقف في الدور العاشر و تنكر أن لهذا المبنى أسس و قواعد قام عليها.
فالبعدية هي أن هذا المبنى بني من أعلى لأسفل. بل إن الأمر أسوأ من ذلك لأن تصور أن الحس هو الأساس للبديهيات و كل البناء المنطقي هو أشبه ببناء نموذج رياضي من الأسمنت بدلا من القواعد الرياضية.

فمن يجادل ملحد  أو لاأدري و هو يصرح بالقول بالبعدية يكون بذلك قد ناقض نفسه أمام خصمه لأنه يزعم أن عنده يقينيات و لأنه  أيضا يستدل بما داخل الكون على سبب الكون و على الخالق الذي هو خارج الكون. فهو بذلك قد تجاوز باستدلاله محيط و مصدر برهانه .

و هذا تفصيل للاشكال في نقاط :

1. من يقول أن السببية هي تعميم لاستقراء الواقع. حقيقة قوله المتهافت هي أن الاستقراء البدائي للأحداث المتعينة في الزمان و المكان هو مصدر بديهية السببية. و تعيين الأحداث في الزمان و المكان يسمي الحتمية و ليس السببية . فهو بذلك يعمم الحتمية و ليس السببية أو على الأقل لا يمكنه التفريق بينهما. و يكون دليله و برهانه استقرائي في الأصل لكنه استقراء بدائي بأدوات أولية. في حين أن الاستقراء المتطور العلمي يقول أن الحتمية تسقط على مستوى ميكانيكا الكم و أن الطبيعة  ليست في حقيقتها كما نظنها حين نتعامل معها  بأدواتنا البدائية فالإكترونات التي تشكل جسمك يمكنها  أن تمر من جدران بيتك و تذهب إلى مجرة أخرى في أي وقت بل و في نفس الوقت الذي تكون فيه في جسمك أيضا . فتعميمك الذي استخلصت منه بديهية السببية (التي هي الحتمية عند التدقيق  ) هو مجرد مغالطة منطقية تسمي التعميم المتسرع Hasty Generalization.
2. لا يمكنك الاستدلال بالبديهيات على صفات الخالق  لأنه خارج الكون و إذا كانت البديهيات مجرد تعميم لاستقراء فهذا و لا شك لا يمكنك تعميمه على ما هو خارج الكون .  فحتى من يقول بوجود أكوان متعددة يقول أننا لا نعلم القوانين هناك لأنها ستكون  مختلفة عن قوانيننا .
3. لا يمكنك أن تستدل بالسببية على وجود خالق للكون لأنك رصدت أن كل شيء له سبب في الكون لكن كيف علمت أن الكون نفسه له سبب؟.
4. اللادري يقول أن الشك سابق على البديهيات و نحن ننقد له ذلك و نثبت له العكس لكنك تثبت أن الاستقراء سابق للبديهيات و الشك سيسبق الاستقراء بالتأكيد  و بالتالي فمذهبك يؤول في النهاية إلى مذهبه.
5. كيف يمكن أن تجري عملية الاستقراء بدون بديهيات و هي عملية منطقية تحتاج إلى أسس بديهية تقوم عليها؟.
6. إذا كان  الطريق بين البديهيات و بين الاستقراء منطقي فقد أثبت أسس للبديهيات و بالتالي فهي ليست بديهيات و لو  لم يكن منطقي فماذا يمكن أن نسميه؟.

هذا ما أراه الصواب و الله أعلم.


تعليقات