اللاأدري حين يأوي إلى ركنه الشديد



مقدمة :
اللأدرية هي معتقد لاديني و هو لا يعني أننا مازلنا نبحث أو أننا لا نعلم بل يعني أننا ندعي أنه لا ينبغي لأحد  أن يزعم اليقين في أي قضية خصوصا القضايا الدينية ، لأنه يستحيل أن نتحقق من الأسس التي نبنى عليها معرفتنا والشيء نفسه ينطبق على المعلومات الاستقرائية. وهذا الكلام قد تسمعه من شخص سمع بعض المصطلحات الفلسفية والعلمية ولم يحط بها علماً فتجده مثلاً يقول لك إن الحقيقة نسبية مستنداً إلى النظرية النسبية لأينشتاين وهذا كلام فارغ تماماً من الصحة، لأن النظرية النسبية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بكون الحقيقة نسبية أو غير نسبية، وأي شخص يفعل هذا فاعلم أنه لا يعرف عن النظرية النسبية سوى اسمها، ولعله كذلك سمع عن مبدأ قابلية التفنيد Falsifiability لكارل بوبر وأن العلوم قائمة على الشك دائماً وأن النظرية العلمية لا يمكن إثباتها إثباتاً نهائيّاً وإنما فقط توجد أدلة تؤيدها، فمثل هذه العبارات الخاطفة قد تؤدي إلى هذا المفهوم التعميمي للشك في كل شيء. لكن الحقيقة أن الأمر ليس كذلك فكل هذه العبارات لا تعني أننا لا نملك أدلة على علومنا الحالية، ولكن المقصود أنه لا ينبغي السقوط في مغالطة التعميم الاستقرائي Inductive Generalization فإذا كان البجع الذي نراه في أوروبا كله أبيض اللون فلا ينبغي أن نقطع بأن البجع لا يمكن أن يوجد بلون آخر لأنه بكل بساطة قد يكون أسود في أستراليا!! . وكذلك لا ينبغي رفض الأدلة التي تفند ما نعتقد صحته، ولكن إذا كانت أدلة صحيحة فلا نردها بالأدلة المؤيدة لأن الدليل المفند أقوى من المؤيد. وهذا كلام صحيح لا غبار عليه ولا يؤدي إلى هذا الغلو الذي ذهب إليه مَن فقد اليقين في كل شيء. وسوف أضرب مثال يجمع كل الأفكار السابقة ليتضح للقارئ أين ذهب هؤلاء التائهون وأين ينبغي أن يذهب العقلاء:
فمثلاً النسبية الكلاسيكية لجاليليو هي تلك التي نعلمها جميعاً من خلال خبرتنا بالتعامل مع السرعات التقليدية، فنحن جميعاً نعلم أننا إذا كنا نسير بسرعة 100 كيلومتر في الساعة ومر بجوارنا في الاتجاه نفسه شيء يسير بسرعة 200 كيلومتر في الساعة فسوف نراه يسير بسرعة 100 كيلومتر في الساعة وإذا كان يسير في الاتجاه المعاكس فسنراه يسير بسرعة 300 كيلومتر في الساعة. فالحاصل أن السرعات تختلف باختلاف حركة الراصد، لكن إذا تعاملنا مع السرعات الكبيرة التي تقترب جداً من سرعة الضوء (0.8 و0.9 و0.99 من سرعة الضوء) فسنشعر أن هناك خللاً في قياس السرعة وأن هناك ثمة شيئاً خاطئاً، حتى إذا بدأنا نتعامل مع سرعة الضوء وقعنا في معضلة عجيبة حقّاً وهي أن سرعة الضوء دائماً ثابتة فلو أننا نسير بما يقارب سرعة الضوء ومر بجوارنا شعاع ضوء فسنراه يسير بجوارنا بسرعة الضوء المعتادة نفسها التي نقيسها لو كنا واقفين على الأرض!! وهذا سيحدث أيضاً لو مر في الاتجاه المعاكس!! هذه المشاهدة هي التي نقضت نسبية جاليليو التي كنا وما زلنا نراها صحيحة جداً في خبراتنا اليومية. وبينت لنا أن هذه المفاهيم والقوانين التي كنا نظنها صحيحة في جميع الأحوال هي في الحقيقة غير صحيحة إلا في حدود معينة، وذهبنا إلى طريقة أخرى لوصف الحركة والزمان والمكان وهي نسبية أينشتاين الذي بحث عن حل مناسب لهذه المعضلة ووجد أن الزمن يتباطأ Time dilation والطول ينكمش Length contraction كلما اقتربت الحركة من سرعة الضوء فالزمن ليس شيئاً ثابتاً كما كنا نظن وإنما سرعة الضوء هي الثابتة Light speed invariance فالنظرية النسبية لا تقول بأن كل شيء نسبي، بل تقول بأن سرعة الضوء ثابتة وليس الزمان والمكان كما كنا نظن. وبالتالي فليس هناك إطار قصوري مرجعي مطلق Absolute frame reference كما كانت ميكانيكا نيوتن تصور الكون على أنه مسرح كبير تجري عليه الأحداث فالنظرية النسبية استبدلت بالثوابت المعهودة ثوابت أخرى ولم تنفِ الثوابت بالكلية كما يظن الناس من اسمها. فهذه القابلية للعلم بأن يتم استبدال النظريات القائمة فيه بأخرى مُستحدثة قدمت الأدلة المؤيدة لها وفندت النظريات التي سبقتها، هي ما يعنيه فلاسفة العلوم بقابلية التفنيد، ولا يعنون أبداً أنه لا دليل صحيحاً على شيء.
 لكن إذا طرحنا كلام المتعالمين جانباً وذهبنا نستطلع كلام الفلاسفة، فسنجد أن بعض الفلاسفة بالفعل قد رفعوا راية التشكيك هذه قديماً وحديثاً، وقد تجد بعض العلماء يستشهدون بمثل هذه الأفكار في كتبهم العامة أو لقاءاتهم التلفزيونية، لكنك لن تجدهم يفعلون ذلك في أبحاثهم المُحكمة أو في كتبهم الأكاديمية لأن هذا الغلو لا علاقة له بالعلم ولا بالعقل في الحقيقة كما سأبين الآن بإذن الله.

الموضوع :

يظن اللاأدري دائما أن له ركن شديد يمكنه أن يأوي إليه حين تحاصره الحجج و هذا الركن الشديد هو الإغراق في اللاأدرية ظنا منه أنه يمكن الاسترسال في التشكيك إلي ما لا نهاية سواء كان هذا التشكيك في بديهيات و مسلمات المنطق و العقل أو كان في استقرائنا للواقع . لكن الحقيقة أن الأمر ليس كما يظنه اللاادري أبدا .
فلنفرض أن هناك حوار بين مؤمن  اسمه زيد و لاأدري اسمه عمرو و أنه أصبحت حجة المؤمن نتيجة حتمية لمسلمة عدم اجتماع النقيضين مثلا.. فسيلجأ اللاأدري إلي ركنه الشديد و يشكك في هذه البديهية لكي يفر من الإيمان الذي باتت قيوده تلوح في الأفق.

و يقول : وما يدرينا أن مسلمات المنطق صحيحة؟
فيقول عمرو : عذرا ... ما هو معني أن تشكك في أن الشيء لا يمكن أن يكون نقيضه ؟
يقول زيد :معني ذلك أن الشيء يمكن أن يكون و لا يكون علي صفة ما في عالم ما أو كون آخر أو ....
يقول عمرو : لحظة لحظة عزيزي اللاأدري لم أقصد ذلك بسؤالي و لكن قصدت أنك احتكمت لنفس القاعدة التي تحاول نفيها وأنت لا تدري ...
يقول زيد : كيف ؟
يقول عمرو : لأنك عندما تحاول التشكيك في استحالة اجتماع النقيضين تنطلق من اعتقاد أن هناك تناقض بين الاعتقاد بأن النقيضان يجتمعان و بين اعتقاد أنهما لا يجتمعان و أنك إذا اعتقدت باحد الاعتقادين كنت غير معتقد بنقيضه لأن النقيضان لا يجتمعان .

الحاصل أنك لا يمكن أن تستمر في التشكيك إلي ما لا نهاية كما يبدو للوهلة الأولي و إنما ستجد نفسك في النهاية تحتكم إلي نفس المسلمات التي تريد نفي صحتها و ذلك لأن هذه المسلمات هي المكون المعرفي نفسه و هي الحقيقة نفسها التي نحاول اكتشافها بعقولنا فهي أمر  متعلق بالوجود ذاته مستقلة عن عقولنا و لذلك نصطدم بصلابتها عندما نحاول التلاعب بها لأنه بدونها لا وجود و لا معنى و لا معرفة و لا حقيقة فهذه المسلمات ليست بعض المعرفة و إنما هي المعرفة نفسها و هي الحقيقة نفسها فيكون اللاأدري مخير بين أن يتوقف عقله بالكلية عن وظيفته التي هي المعرفة أو يسلم بوجود حقيقة مستقلة عنه زرعت أصولها و مفاتيحها في عقله علي شكل مسلمات فلا يستطيع العقل السير خطوة واحدة إلا إذا وجد الطريق الذي يمكن السير فيه حتي لو كانت تلك الخطوة نحو الشك فلا سير بدون طريق.

زيد : 
كل البديهيات قد تكون غلط  لأنه لا يوجد  وسيلة نتأكد بها من صحتها غير عقولنا و عقولنا هي الأخري مجبرة أن تحتكم الي  نفس المسلمات التي يفترض أن تحكم عليها . فنحن مجبرون علي  استخدام عقولنا  رغم أننا لا نعلم هل  هي فعلا وسيلة صحيحة أم لا لتحصيل المعرفة و بالتالي لا يمكننا أن نوقن في أي شيء و ينبغي أن نظل متشككين دائما في كل شيء

عمرو : 
الأمر ليس كذلك و لكنك لم تنتبه إلي شيء هام جدا و هو  أننا إذا  قلنا أن هذه المسلمات صحيحة  أو خاطئة أو حتي  قلنا لا نعلم  هل هي صحيحة أم لا   فجميع هذه  الخيارات  = أن  المسلمات صحيحة. 
لأن وجود خيارات متمايزة إذا وقع أحدها  ارتفع نقيضه ، يعني أننا مازلنا نحتكم للبديهة عدم اجتماع النقيضين .
و هذه القاعدة هي معني المعرفة نفسه و هي معني مستقل ليست من اختراع العقل و إنما من اكتشافه 
تماما مثل استخدام الحواس في اكتشاف الأشياء من حولنا فيأتي من يرفض ما تنقله لنا حواسنا فهذا  ممكن لكن  من يرفض استخدام الحواس نفسها في الاكتشاف لا يحق له "اختراع " استقراء آخر فإما أن تستخدم العين في الرؤية و إما أن تغلقها لكن أن تستخدمها في السمع أو في عدم رؤية الأشياء التي تراها فهذا هراء لا معني له .
نفس الشيء وقع مع استخدام العقل في اكتشاف و استقراء المعاني بدلا من الواقع ،فالنتيجة التي وصلت أنت إليها هي عبارة عن استخدام العقل في التشكيك في المسلمات عن طريق التشكيك في العقل نفسه لكنك فعلت ذلك باستخدام العقل و باستخدام المسلمات نفسها كأسس لهذا التشكيك .
فإما أن تستخدم العقل في استقراء المسلمات و إما ألا تستخدمه في أي شيء لكنك لا يمكن أن تستخدمه في التشكيك في المسلمات.
و بالتالي ستبقى نقطة النهاية هي:
1. أنا استخدم عقلي و المسلمات صحيحة 
2. انا لا استخدم عقلي في أي شيء . 
و لن تكون نقطة النهاية أبدا  هي أنا استخدم عقلي و المسلمات مشكوك فيها  .
و من أراد أن  يرفض نتيجة كل الخيارات لأن عقله هو الذي يعرض عليه الخيارات، فهو بذلك لم يكتشف أن المنطق خطأ و إنما كل ما فعله هو التوقف عن اكتشاف المنطق ليس إلا.
زيد : 
انظر يا عمرو  إلى أي  نتيجة مهما كانت في أعلي درجات اليقين ثم أخبرني 
كيف عرفت أن هذه النتيجة صحيحة ؟ 
عمرو :
لأن مقدماتها صحيحة 
زيد : 
و كيف عرفت أن مقدماتها صحيحة ؟ 
عمرو:
  عن طريق استخدام عقلي .
زيد : 
و من أدراك أن عقلك أداة صحيحة للحكم؟ 
فلو أن به خلل لكان من المستحيل أن تعرف ذلك و بالتالي فإن الاستنتاج الصحيح  هو أن كل ما يحكم به العقل مشكوك فيه مهما كان يقينيا. هل يمكنك أن تخبرني أين المغالطة في هذا الاستنتاج؟ 
عمرو:
المغالطة هي أنك تظن انه يمكنك أن تبني استدلال منطقي نهايته تقول بأن المسلمات خطأ و هذا مستحيل لأن معني أن المسلمات خطأ هو أن هناك شيء اسمه خطأ و هو مخالف للحق و الصواب و بالتالي فهناك ماهية للأشياء و هناك نواقض لها و هذا الاستدلال يعني أن البديهيات صحيحة لكنك أخذت نتيجته هذه و سميتها باسم آخر لا معني له و هو ان البديهيات غير صحيحة و هذا كأن تستنتج أنك موجود لأنك تفكر لكنك تسمي الوجود بالعدم فتقول أنا معدوم لأنني أفكر . فأنت لا تستطيع أن تغير الترابط المنطقي و لكن يمكنك أن تأخذ النتيجة ( التي هي الوجود ) و تغير اسمها (تسميها العدم ) فتجد نفسك حينها تملك استدلال علي أن البديهيات خطأ لأنه لا يوجد شيء اسمه صواب و لا خطأ بدلا من أن يكون دليلا علي وجود الصواب و الخطأ  كما أن التفكير  دليل علي انعدام الذات المفكرة بدلا من أن يكون دليل علي وجودها .
إذن التشكيك في المسلمات هو نتيجة  تصلح أن تكون مقدمة لاستنتاج آخر و هو أن هناك فرق بين الحق الذي علمناه للتو و بين الباطل الذي خدعنا به عقولنا قبل ذلك  و بالتالي فليس استنتاجك هو  نهاية المطاف كما يبدو من الوهلة الأولي و إنما استدراكي عليه ملازم له  فلا يمكنك أن تستخدم عقلك في التشكيك في المسلمات لكن يمكن أن تتوقف عن استخدام عقلك بالكلية (و هذا مستحيل أيضا ) . أما بناء هذا الاستنتاج علي نقص علمنا او عقولنا و أننا  لا نعلم دليل علي صحة هذا العقل ، فبالرغم من أن معرفتنا مرهونة بما تنقله لنا عقولنا إلا أن  عدم علمك بصحة العقل لا يعني أنك قادر علي التشكيك في المسلمات (لأنك تحتاج أن تثبت صحة المسلمات لكي تشكك فيها كما بينت سابقا) و إنما يعني اعتزال المسلمات و التفكير بالكلية . لكن حتي في وسط هذا الاعتزال سيبقى معك معلومة تصدق عقلك فيها و هي أنك ذات ناقصة جاهلة  و أن هناك مساحة كبيرة   لخداعك و هذه المعلومة يمكن أن نستخلص منها مسلمات و أدلة علي وجود الخالق عن طريق دليل السببية .
زيد : 
إذن أنت تريد أن تقول بما أننا لا نملك إلا أن نستسلم لما تخبرنا به عقولنا عن المسلمات ، فعلينا أن نرضى بها و نقبل بالأمر لأننا لن نجد حلا آخر .
عمرو :
لا لم أقل ذلك و إنما قلت أن عملية التشكيك نفسها عبارة عن خدعة عقلية غير  منطقية و متناقضة ذاتيا و هذا يعني أنها باطلة  و أن المسلمات حق لا يمكن التشكيك فيها منطقيا ليس لأننا لا نملك حيلة غير العقل و العقل هذا مبرمج على استخدام المسلمات و إنما لأن المعرفة نفسها هي هذه المسلمات "فلا" يمكنك أن تفترض أنها خطأ ثم تبني نموذج معرفي آخر حتى لو كان هذا النموذج بسيط جدا و هو عبارة عن جملة واحدة تفيد أن المسلمات يمكن التشكيك فيها.
زيد :
لكنني مازلت أري أنه إذا كان ليس عندنا وسيلة للمعرفة غير عقولنا و بالتالي  لا يمكننا  تقييم عقلولنا
إذن فكل شيء نعرفه سيكون  قابل للشك و لا سبيل للخروج بأي وسيلة أخرى من هذا الموقف لأن ما قيل في العقل سيقال في الوسيلة الأخري  . لا أعلم ربما ليس هناك مفر سوي أن يكون كل منا إله و يكون  بكل شيء عليم بذاته و بدون وسائل أو أسباب
عمرو:  
المخرج من هذه الحالة هو أن تكتشف المغالطة 
أين المغالطة؟ 
المغالطة هي أنك تستخدم المسلمات في عملية الشك و بالتالي فأنت لا تشك في كل شيء كما تتّوهم و أنت لم تجد برهان يمكن به التشكيك في المسلمات كما تتّوهم و أنت لا يمكن أن تبني علي عدم علمك بكل شيء أن هناك شيء ما يمكن لو علمناه أن نقدح في المسلمات كما تتّوهم. 
لماذا أقول انك تتّوهم؟ 
لانه لا يمكنك أن تستخدم المسلمات في الوصول إلي التشكيك و لا يمكنك التشكيك إلا إذا استخدمت المسلمات .
فمثلا : لو استخدمت مصباح علاء الدين لكي أثبت أن مصباح علاء الدين خرافة و ليس له وجود . فسأكون حينها مخرف لا أكثر   لأنني لو كنت استخدمته فهو إذن موجود و لو  كنت أثبت أنه غير  موجود  فلا يمكن أن أكون قد استخدمت المصباح .
و نفس الشيء في البرهان الرياضي أو المنطقي 
فأنت بتبدأ بجملة و إذا  وصلت الي نقيضها ببرهان صحيح فهذا اذن دليل علي أن المقدمة كانت  فاسدة و لا يمكن أن تجمع بين المقدمة الفاسدة و النتيجة المناقضة و البرهان الصحيح إلا بمغالطة تسمية الأشياء بغير اسمها كما تستخدم كلمة خطأ علي المسلمات و التي لا يمكن أن تكون كلمة تحمل أي معني في هذا الموضع .
زيد :
لماذا لا تكون عقولنا هي التي اقنعتنا بكل هذا ؟ لماذا لا تكون هي التي اقنعتنا ان هناك شيء اسمه عدم اجتماع النقيضين و أن الشيء  اذا كان حق فهو ليس  باطل و اذا كان باطل فهو ليس  حق لماذا لا يكون حق و باطل في نفس الوقت  أو يكون الحق هو نفسه الباطل و الباطل هو الحق ؟
عمرو :
مرة أخري لم تفعل  سوي انك سميت الأسماء بغير اسمها و استخدمت نفس المسلمات التي تحاول ان تقدم برهان علي خطئها . لأن كل ما قلته لا يمكنك إلا أن  تعتبره حق أو محتمل أن يكون حق و اذا كان حق فهو ليس باطل و اذا كان لا يمكن أن يجتمع الحق و الباطل في هذا الموضع أيضا فالمسلمات مازالت صحيحة و أن وصفتها بغير وصفها .
أي أن  هذا التشكيك لن يكون صحيح إلا إذا كان باطل أو إذا عنينا بالتشكيك عدم إمكانية التشكيك 
كيف ذلك  ؟
لأنه لن يكون صحيح إلا إذا كانت المسلمات صحيحة . 
إذن لا يمكن أن يتم التشكيك في المسلمات إلا إذا اقترن هذا التشكيك بتناقض  منطقى يفسد برهان التشكيك .
زيد : 
حسنا هذا كله  ممتاز لن نشكك في المسلمات لكن ماذا عن  عقولنا التي قد تكون خدعتنا 
و ألفت لنا مسلمات مترابطة و متماسكة جدا و لا يمكننا التشكيك فيها  لكن لو رأينا الأمر من بعد آخر  خارج عقولنا لكنا اكتشفنا الخدعة و التي لن تكون أن المسلمات خطأ أو صواب  و لا يمكننا أن  نعرف كيف ستكون اصلا لانها منظومة اخري مختلفة تماما و ليس لها اي  علاقة بمسلماتنا و لا بحواسنا و لا بشيء من هذا العالم و يمكننا أن نسميها المنظومة (ص ) مثلا .

عمرو : 
و هل هذا الاحتمال الذي  طرحته أنت الآن بوجود المنظومة (ص) ، هل  سيكون صواب و متوافق مع المنظومة ( ص)  أم لا ؟ 
اذا كان جوابك هو  نعم  ، فسوف تأخذ منظومتنا بكل ما فيها و تربطها بالمنظومة( ص) لأن هناك جملة منطقية عندنا تستطيع وصف تلك المنظومة بل و تنطبق عليها و هذه الجملة  مبنية علي مسلمات و بما أن منظومتنا متسقة و مرتبطة مع المنظومة (ص) اذن فالمنظومة (ص) تمتلك نفس المسلمات التي نعرفها .
و إذا  كان جوابك هو لا ، إذن فهذا  الاحتمال عبارة عن كلام فارغ ليس له معني و ما هو إلا  عبارة عن مغالطة أخري  . و كل ما فعلته هو أنك صنعت وهم  ثم سميته المنظومة (ص) .
إذن :
1. لا يمكن التشكيك في المسلمات فهي يقينية متسقة 
2. لا يمكن الاعتماد علي عجز العقل أو مخادعته لنا في افتراض مسلمات مغايرة تبطل مسلماتنا .
زيد :
كل هذا رائع لكنه رائع بمقاييس عقولنا و نحن نشك في عقولنا ؟
عمرو :
  لو  كنا مخدوعين و وجدنا  وسيلة تجعلنا  ننظر  علي عالمنا هذا  من المنظومة (ص) فهل سنرى من بداخل هذا العالم مخدوعين أم لا  ؟ 
اذا كان جوابك  نعم فهذا يعني أن سكان المنظومة (ص) عندهم سببية مثلنا .  لأن الخدعة تعني عجزك عن الوصول لسبب العلم أو عجزك عن الالتحاق بالمنظومة (ص) و إذا  كان عندهم سببية فكل مسلماتنا ستكون هناك أيضا. 
و اذا كان الجواب لا . فالموضوع منتهي و ما نراه هنا صحيح و لن نري شيء غيره اذا التحقنا بالمنظومة( ص) .
ما اردت توضيحه هو أنه ليس هناك  احتمال منطقي يقول أن المسلمات يمكن أن تكون خطأ و أن نقص علمنا يمكن أن يكون دليل علي أن كل المسلمات خطأ و انه لو كان علمنا كامل لرأينا المسلمات خطأ .
رغم أنه للوهلة الأولي ممكن ان  يظن  احدنا أن هذه احتمالات ممكنة فعلا و أنه ما دمنا لا نعلم  كل شيء  إذن فمن  الممكن أن يكون كل ما نعرفه خطأ أو خدعة .
لكن عند التدقيق في الأمر سنجد أن مسلماتنا يجب ان تكون صحيحة و أنها عميقة لدرجة أنها هي المعرفة نفسها و أنك يمكن أن نعرفها أو لا نعرف أي شيء لكن لا يمكن ان نعرف أن المسلمات خطأ أو خدعة .
في النهاية الدين لم يطلب منك يقين بمعني أن تكون بكل شيء عليم و إنما طلب منك معرفة يقينية تليق بك كمخلوق ناقص العلم و هذا اليقين متوفر في البديهيات لأن كل علومك و معارفك مبنية عليها و لأنها معرفة لا يمكن التشكيك فيها فإذا كنت تعتبر نفسك تعلم أي شيء في حياتك (حتي لو كان هذا الشيء هو علمك بأن هناك احتمال ان البديهيات قد تكون خطأ و أن عقلنا قد يكون خدعنا ) فأنت تعلم من باب أولى صحة البديهيات . 
كما أن دلالة تلك البديهيات علي قضايا الإيمان تسبق دلالتها علي أي شيء آخر يمكنها أن تدل عليه 
قال تعالي (قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ).

ما سبق كان عن اللاأدري الذي يشكك في البديهيات و المبادئ العقلية لكن ماذا عن اللاأدري الذي يقبل بهذه المباديء كمكون أساسي في الكون نشأ بطريقة أو بأخري لكنه يشكك في استقرائنا لكل شيء حولنا مما يقطع الطريق في منتصفه بين المسلمات و نتائجها الحتمية ؟.
هذا يمكن الوصول معه إلي أولى خطوات اليقين إن كان يعاني من حالة ضياع ونكران للعقل.
و أولى خطوات اليقين في هذه الحالة والتي لا يمكن نقضها بكل هذه الهلاوس والوساوس والمتاهات هي سؤال: هل أنت جاهل ناقص العلم أم لا؟
فإن قلت لا فقد شفيت من هذه السفسطة (إن كانت الإجابة خاطئة في نفسها لأن الصحيح أننا بالفعل ذوات ناقصة). وإن قلت نعم فقد علمت شيئاً لا يمكن أن تشك فيه فتكون شفيت أيضاً من هذه الحالة، لكن يبقى أن تستثمر هذه المعلومة وتصل بها إلى ما تريده من تحصيل اليقين، وهذا ممكن بأن تستخدم مبدأ السببية الذي هو عبارة عن الاستدلال على القيوم من خلال النقص في المخلوقات والتي وقفت أنت على أحدها في نفسك منذ قليل وهو (نقص العلم عندك)، فالنقص دليل على الحدوث لأن الناقص بذاته المحتاج إلى شروط وجوده لا يتصور أن يوجد إلا لاحقاً لشروط وجوده، وبالتالي فهو مسبوق بشيء، ومَن كان قبله شيء فهو حادِث والحادِث لا بد له من مُحدِث. 
فإن كنت تشك في كل علومك الاستقرائية بدعوى أنها غير كاملة، فهناك معلومة كاملة عندك وهي جهلك وعجزك، وهذا يكفيك لليقين بوجود الخالق إذا اتبعت الطريق الصحيح في الاستدلال بعد ذلك.
 ولذلك نكرر دائماً أن أدلة الإيمان بالله مرتبطة بأصل كل العلوم والبدهيات، ويحضرني هنا نموذج عملي على هذه الفكرة وهو قول الفيزيائي الملحد ستيفن هوكينج في كتابه (التصميم العظيم) حين أراد أن يُمعن في اللاأدرية فقال: «ألا يمكن أن نكون نحن أيضا عالقين بداخل حوض كبير من أحواض السمكة الذهبية وقد شُوهت رؤيتنا من خلال عدسات ضخمة؟»
فنقول له لتكن كذلك. وليخدعك مَن وضعك في الحوض الكبير ذي العدسات الضخمة كما يشاء، ولتشك في كل هذه المعلومات الاستقرائية التي وصلتك بناء على مثل تلك الأوهام. لكنك بعد كل هذا لا يمكنك أن تشك في أنك (ذات) جاهلة محتاجة إلى الاستقراء لكي تتعلم أليس كذلك؟
فهذه الحقيقة لا يمكن أن تشك فيها لأنك لو كنت عالماً بذاتك مستغنياً عن التعلم لتعرف ماهيتك؛ لما كان هناك مساحة للشك عندك، ولما كان هناك مساحة ممكنة لخداعك، ولما كان الجهل ممكناً في حقك في أي لحظة، فكل شيء سيكون يقينياً معلوماً بالنسبة لك، وهذا أمر مرتبط بذاتك ملازم لها غير مُكتسب، فلا يتصور وجودك بدون تلك المعرفة.
إذاً أنت الآن لديك:
1- معلومة يقينية بأنك ذات ناقصة محتاجة في وجودها للأسباب. 
2- معلومة يقينية بأن الناقص يحتاج إلى الأسباب.
3 - معلومة يقينية بأن المحتاج للأسباب ناقص في ذاته.
وهذه البدهيات هي دليل السببية الذي يقودك لإثبات الخالق. 
وهنا يمكن لهوكينج أن يوقن بوجود الخالق في الوقت ذاته الذي يملؤه الشك في كل ما تنقله له حواسه عن نفسه وعن العالم الخارجي.

تعليقات