مكعبات دوكينز الذهبية ومعجزة التعاون


إذا وجدت أحد الأحجار الرسوبية مغروز فيه تلك المكعبات الذهبية اللامعة ذات الحواف الحادة (الصورة رقم 1) فهل تستنتج:



1-أنها من صنع البشر وأن أحدهم أسقط تلك المكعبات الذهبية المصقولة بداخل الحجر الرسوبي حين كانت مادته لينة.

2-أنها نمت تلقائيا بشكل طبيعي داخل الأحجار الرسوبية نتيجة خلط العناصر بعضها ببعض وتفاعلها الكيميائي.

3- الإجابة 1 و2 معا.

4-لا نعلم أهي مصنوعة أو طبيعية إلا بعد علمنا بأن الجريان التلقائي لقوانين الطبيعة يؤدي إلى وجود تلك المكعبات (فتكون بذلك طبيعة) أو يمنع وجودها عفويا فيكون وجودها في حد ذاته دال على التدخل من كيان يملك الإرادة والوعي (فتكون بذلك مصنوعة).

لماذا تلك الخيارات تحديدا! وما الذي يشير إليه كل خيار، وما هو الخيار الأصح من بينهم؟ هذا ما سأبينه من خلال هذه المقالة بإذن الله.

هذه المكعبات الذهبية قد ذكرها مؤخرا الملحد الشهير ريتشارد دوكينز في أحد كتبه حين كان ينتقد حجة ساعة بيلي الشهيرة والتي تمثل المعيار التقليدي البسيط للتفريق بين ما هو مصنوع وما هو طبيعي وقد كان الحماس يتفجر من كلمات دوكينز حين كتب عنها كأنه أخيرا قد وجد الضربة القاضية لمفهوم التصميم أو الغائية فقد ذكر أن الأمر نزل عليه كالصاعقة عندما علم بأمر تلك المكعبات لأول مرة.

وحجة ويليام بيلي باختصار هي أنك لو كنت تسير في الصحراء ثم وجدت حجرا فلن تتساءل كيف وصل هذا الحجر إلى هنا لأن الأحجار توجد بشكل طبيعي فلن يكون وجودها في الصحراء بذاك الأمر الملفت الذي يحتاج إلى تفسير لكن لو وجدت ساعة فهذا بالتأكيد أمر غير طبيعي ولابد أن يكسبك ذلك علما بوجود صانع صنعها وصممها.

دوكينز وضع صورة لتلك المكعبات الذهبية ثم قال: لو كنت تسير في الصحراء ثم وجدت هذا الحجر فهل ستظن أنه مصنوع (ساعة بيلي) أم أنه تكون بشكل طبيعي (حجر بيلي)؟

وبذلك يكون دوكينز قد نصب فخه لاصطياد القارئ لأن الإجابة ستكون غالبا هي الخيار الأول (مكعبات ذهبية مصنوعة) مما يتيح له الفرصة ليقول للقارئ لقد كنت مخدوعا يا عزيزي وأن بيلي أيضا لو كان مكانك لكان اختار نفس اختيارك. في حين أن هذه المكعبات الذهبية قد نشأت تلقائيا داخل الصخور الرسوبية وأن الطبيعة قد أنتجت بالفعل أشياء لن تصدق حين تراها أنها طبيعية غير مصنوعة فلماذا لا يكون مظهر الكائنات الحية الذي يبدو لك مصمما بدقة للوهلة الأولي هو في واقع الأمر خدعة خدعت بها كما خدعتك تلك المكعبات الذهبية؟ وأن تلك الحياة قد نشأت وتطورت طبيعيا بدون صانع! وهذه الفكرة في الحقيقة هو جوهر وأصل نظرية التطور وكل ما سوى ذلك يعد فروعا لهذا الأصل.

وبعيدا عن أنه لا وجه للمقارنة بين شكل هندسي منتظم وجد على تلك الهيئة باجتماع عدة أسباب وبين نظم مذهلة في غاية التعقيد والدقة تمتلكها أبسط خلية حية فضلا عن التعرض لجملة الكائنات الحية والتوازن فيما بينها مما يجعل هذه القفزة الاستدلالية باطلة وغير مبررة. لكننا مع ذلك يمكننا الاستفادة من هذا المثال المضروب بالمكعبات الذهبية لتوضيح المعيار الصحيح الذي ينبغي اتباعه للحكم على شيء ما بأنه مصمم وليس ناتجا عن الجريان التلقائي للطبيعة.

 هذه المكعبات الذهبية تسمي بيريت pyrite وبالرغم من لونها الجميل البراق إلا أنها ليست ذهبا وإنما هي كريستالات مركب كبريتيد الحديد iron disulphate الذي تتكون جزيئاته من ذرة حديد وذرتين كبريت وبسبب الخواص الكيميائية لمركب كبريتيد الحديد وبسبب طريقة ترتيب الذرات بداخله كان شكل المكعب هو أكثر الأشكال الهندسية استقرارا في حقه لأنه يستطيع استيعاب أكبر قدر من الذرات في أقل مساحة ممكنة. لكن مع ذلك يجب أن تتوفر شروط معينة بخصوص درجات الحراة والضغط والحموضة وأن تكون كميات الحديد والكبريت بالنسب المناسبة لكي تتكون تلك المكعبات فإذا حدث خلل ما في أحد الشروط فلا يمكن أن تتكون المكعبات وسوف تتكون بدلا من ذلك أشكالا أخرى مثل الشكل البيضاوي أو شبه المنحرف أو الكروي إلى غير ذلك من الأشكال حسب ما تقتضيه الظروف المحيطة.

(الصورة رقم 2)




 توضح ترتيب جزيئات كبريتيد الحديد ولا أظن أن هناك من يستشكل ترتيبها المنتظم على مستوى الجزيئات وفقا لخواصها الكيميائية وبالرغم من أن شكل المكعبات الذهبية الكبيرة المنتظم ما هو إلا انعكاس للترتيب المنتظم للذرات الصغيرة إلا أن غالب الناس يصدمه الأول لعدم اعتياده عليه في حين أنه يتقبل الثاني بكل أريحية.

إذن فهذا الشكل الخارجي المنظم كان وراءه خواص فيزيائية وكيميائية منظمة ولا عجب في ذلك عند تأمله فنحن نعلم جيدا أن خواص الطبيعة الفيزيائية والكيميائية منظمة وصارمة جدا لكننا اعتدنا على ألا ينعكس هذا النظام على كل ظواهر الطبيعية فغالب مراحل تكون بلورات المعادن أو تراكم الرواسب يمكنها أن تظهر لنا هذه الأشكال الجميلة المنظمة لكن هذا لا يحدث غالبا بسبب عدم توافر الشروط المطلوبة للظهور بالمظهر المنظم وليس لشيء جوهري في خواص تلك المعادن.

وقريب من هذا الأمر أيضا ندف الثلج التي غالبا ما تظهر أشكالا متناظرة مبهرة ومتنوعة. والذي يتحكم في تشكلها هو درجة الحرارة والرطوبة التي تؤثر في كل نقطة خلال مسار سقوطها من السماء. وكثيرا ما يوظف الملاحدة أشكال ندف الثلج هذه كحجة مضادة لحجة بيلي أيضا مثلما فعل دوكينز لكن لعل احتفاء دوكينز بهذه المكعبات الذهبية ناجم عن أنها مرئية بالعين المجردة مما قد يجعل لها وقع أكبر في النفس.

على أي حال فإن سبب الخطأ الذي يدندن حوله دوكينز هو التعميم والظن بأن كل ما يبدو منظما لا يمكن أن يكون طبيعيا وللأسف فإن هذا المعيار هو المعتمد عند كثير من الناس بالرغم من عدم صحته لأن الطبيعة قد تظهر لنا منظمة وقد تظهر لنا عشوائية مما يجعل الخيار الأول المغرق في التعميم خيارا متهورا وفريسة سهلة لفخاخ دوكينز وأمثاله.

لكن هذا لا يجعل الخيار الثاني (نمت تلقائيا بشكل طبيعي) صحيحا بالضرورة رغم أننا نقر أن تكون البيريت ظاهرة طبيعية فعلا. وذلك لأن اعتقاد الملحد بالكفاية التفسيرية المادية هو أيضا تعميم مغرق في الطبيعانية التي تفترض مسبقا أن كل شيء موجود في عالمنا هذا فلابد وأن يكون قد نشأ طبيعيا سواء ظهرت عليه علامات التصميم أم لم تظهر.

 وعلى جانب الصراع البرهاني بين حجة بيلي وفخاخ دوكينز فقد أراد البعض الاحتياط لنفسه والخروج من هذه الأزمة بحل توافقي ظننا منه أنه بذلك قد أمسك العصا من منتصفها وأنه قد أمسك بطوق النجاة فوقع اختياره على الخيار الثالث الذي يعني أن المكعبات الذهبية مصنوعة ومع ذلك قد نشأت طبيعيا وبالرغم من أن هذا القول متناقض ذاتيا إلا أنه قد قال به فئام من الناس للفرار من المواجهة وهؤلاء هم القائلون بالتطور الموجه إذا ما قمنا بتمديد مثالنا المضروب هنا ليشمل النقاش حول نظرية التطور.

لم يتبقى من الخيارات سوي الخيار الرابع والأخير وهو الخيار الصحيح أو الأصح والذي يعرض في ثناياه المعيار الصحيح لإثبات أن ظاهرة ما لا يمكن أن تكون قد نتجت طبيعيا.

إن معيار التفريق بين المصنوع والطبيعي يكون بإثبات أن الجريان التلقائي لقوانين الطبيعة يعمل في الاتجاه المعاكس لإيجاد الظاهرة ابتداء أو لاستمرار وجودها عبر الأزمنة المتتابعة. وبتحقق ذلك نكون قد علمنا أنها ليست ظاهرة طبيعية وإنما معجزة حية أمامنا وصنعة تدل على صانع وآية وعلامة على وجود المتعال على هذه الطبيعة الذي بث آياته من حولنا في كل مكان فكانت نعمة للمتدبر ونقمة على الغافل.

ولا يفهم من كلامي هذا أن الطبيعي لا يدل على خالقه حاشا لله. فإنه قد تبين بلا شك أن الجريان التلقائي لقوانين الطبيعية يدل دلالة صلبة وصريحة على الخالق القيوم الواحد القهار من خلال دليل السببية كما قررنا ذلك في كتابات أخرى كثيرة لكننا هنا نستعرض فقط دليل الغائية أو الإتقان والإحكام ودلالة الأشياء التي ظاهرها النظم والصنع على صانعها.

مرة أخري فإن الخيار الرابع يقول: لا نعلم أنها مصنوعة أو طبيعية إلا بعد علمنا بأن الجريان التلقائي لقوانين الطبيعة يؤدي إلى وجود تلك المكعبات (طبيعية) أو يمنع وجودها عفويا فيكون وجودها في حد ذاته دال على التدخل من كيان يمتلك الوعي والإدراك (مصنوعة).

فمثلا (وهذا مثال لتوضيح الفكرة وليس معلومة تقريرية) لو علمنا أن مكعبات كبريتيد الحديد تتكون في درجة حرارة البراكين ثم جاء من يزعم أنه وجد الكثير منها في القطب الشمالي فسوف نعلم  حينها أنه كاذب وأنه يحاول خداعنا بمكعبات مزيفة مصنوعة لم تتكون عفويا في الطبيعية لأن جريان قوانين الطبيعة حتما سيفسد شكل المكعبات في تلك الحرارة المنخفضة مما يجعل وجودها دال على تدخل واع صنعها من مواد أخري أو في ظروف مختلفة وإن كان هذا التدخل غير محمود هنا لأنه بغرض الخداع والتزييف إلا أن المقصود من المثال هو توضيح معيار الحكم على الشيء بأنه مصنوع أو طبيعي.

إذن فكل ما يثبت في حقه أن وجوده لم يكن نتاج للجريان التلقائي لقوانين الطبيعة أو يثبت أن هذا الجريان الطبيعي من شأنه أن يفسد ويمنع وجوده؛ فهذا يعد إعلان مباشر وصريح على وجود تدخل واع.

ولو أردنا تطبيق هذا المعيار على ظاهرة الحياة فسوف نجد الكثير من الأمثلة التي تعلن التحدي للتفسيرات المادية الطبيعانية وعلى رأس تلك الأمثلة ظاهرة التعاون التي تعد معجزة حقيقية حية بيننا وآية واضحة على العليم الحكيم فليست المعجزات فقط هى تلك الأحداث الغريبة  النادرة الخارقة للعادة بل قد تكون أشياء مألوفة لكنها مكسوة بغبار الغفلة.

التعاون معجزة وذلك لأنه من المتفق عليه علميا أن جميع صور الحياة معتمدة في وجودها على وجود واستمرار الصفات التعاونية لدي الكائنات الحية فالتعاون هو محور النظام البيولوجي ككل وليست أهميته خاصة فقط بالحشرات الاجتماعية، كما قد يظن أغلبنا، وإنما هو هام لحياة البشر والبكتيريا والفيروسات والطيور والأسماك وكل كائن حي يعيش على ظهر هذا الكوكب.

وقد كشفت مؤخرا بعض الأبحاث الحديثة أن الآليات الطبيعية تعمل ضد وجود واستمرار النظم التعاونية مما يجعل التعاون عصي على التفسيرات الطبيعانية وليس ذلك بمعني أن وجوده لغز فحسب بل إن الأمر يتجاوز ذلك بكثير ليعلن أن الجريان التلقائي للقوانين الطبيعية من شأنه أن يفسد ويمنع وجود واستمرار التعاون وأنه لا يوجد أي آلية ضمن نظرية التطور يمكنها إنقاذ الموقف وهذه نتائج استثنائية وهامة جدا لأن هذا يترتب عليه العلم بأن الحياة المشبعة في كل أرجائها بصور التعاون المتنوعة لا يمكن أن تكون هي الأخرى نتاج لقوي الطبيعة وإنما هي صنعة تدل على صانع عليم حكيم.

تعليقات