هذا منشور عابر ليس الغرض منه حصر المشاكل العلمية داخل المنظومة الكلامية ولكن فقط التنبيه على عدم صمود أشهر مسالك المتكلمين في إثبات حدوث العالم أمام ما يخبرنا به العلم التجريبي عن إلكترون واحد مما يبرز ضرورة الاعتماد على دليل سببي آخر يسلم فيه الجانب الشرعي والعلمي من مثل هذه المثالب.
فمثلا يذكر الآمدي في كتابه "أبكار الأفكار" مجموعة من التأصيلات الكلامية المسلم بها –فهي في نظره متفق عليها بين العقلاء- فيقول:
(لا نعرف خلافا بين العقلاء في حصر الموجود الممكن في الجواهر والأعراض)
هذه كارثة التعامل مع الطبيعيات بالعقل المجرد وحصر الوجود في هذه التصورات الفلسفية مما سيترتب عليه فساد النتائج لأن هذه القوالب لن تنجح في وصف شيء فيزيائي مما نعرفه اليوم كما سيأتي..
(الجوهر هو الذي له حظ من المساحة أو هو الذي لا يوجد حيث وجوده وجود جوهر آخر أو هو الذي له حجم أو هو المتحيز)
إذن الإلكترون جوهر لأنه لا يوجد حيث يوجد إلكترون آخر بسبب مبدأ الاستبعاد لباولي. وهو كذلك متحيز لأن له خصائص جسمية لكنه أيضا غير متحيز لأن له صفات موجية فهو منتشر في الفضاء (1). ثم إن جسيمات الطاقة لا يمكن أن تكون جواهر لأن البوزونات مثل الفوتونات الضوئية يمكنها أن تتواجد مضغوطة بعدد كبير في حيز الفوتون الواحد (2) لأن مبدأ باولي لا يمنع ذلك.
(وقد اتفق العقلاء على امتناع تداخل الجواهر)
لكن الإلكترونات (المادة) تتداخل والفوتونات (الطاقة) أيضا تتداخل وهذا معروف ومشاهد كتجربة الشق المزدوج
(واما امتناع وجود الجوهر الواحد في مكانين معا في حالة واحدة فمما لا خلاف أيضا فيه بين العقلاء)
ولكن الإلكترون الواحد –والفوتون كذلك بل والذرات وربما ما هو أكبر – يمكنه التواجد في مكانين في نفس الوقت وهذه تعرف بظاهرة التراكب (3) (4)
(وإذا سلمنا وجود مؤثر غير الله جدلا ولكن لا نسلم تأثير العناصر بعضها في بعض ولا شيء من الاجسام في شيء من الاجسام وذلك لأن الاتفاق من العقلاء وقع على امتناع علية الجسم في الجسم إذا كان منفصلا عنه)
كلامه هذا فيه نفي للسببية من بابها وأما شرطه للمماسة بين الجسمين حتى يقع التأثير، فظاهرة التشابك الكمي تجعل التأثير ممكنا وفوريا بين إلكترون في طرف الكون وإلكترون في الطرف الآخر ليس ذلك فحسب بل إن المماسة أصلا مستحيلة لأنه لا يوجد أي شيء يلامس شيء فإحساسنا بملمس الأشياء ما هو إلا شعور داخلي تصنعه أدمغتنا نتيجة تأثير المجال المغناطيسي للشيء الملموس على إلكترونات أطرافنا العصبية من غير وقوع التلامس على الحقيقة بسبب تنافر الإلكترونات. أي أننا لم نلمس شيء أبدا (5)
(العرض هو الموجود الذي لا يتصور بقاؤه زمانين)
(وقد اتفق جمهور العقلاء القائلين بوجود الأعراض على استحالة قيام العرض بنفسه)
ويقول عبد الجبار في "الأصول الخمسة":
(ولا يجوز أن يكون زائلا بطريقة الانتقال؛ لأن الانتقال محال على الأعراض؛ فالعرض يفارق الجوهر تماما، لا ينتقل منه إلى آخر فلم يبق إلا أن يكون زائلا بطريقة العدم)
العرض أو الأكوان (مثل الحركة والسكون) وما إلى ذلك يفترض أن تصف الطاقة الفيزيائية لكنها تفشل في ذلك من وجوه عدة فالطاقة تنتقل من جسم لآخر وتبقي على حالها أزمنة وتقوم بنفسها (مثل الفوتونات الضوئية) ولا يمكن أيضا أن تكون جواهر كما سبق بيانه. ..
يقول الآمدي:
(وأما بيان امتناع كون الجسم في الأزل متحركا وجوه الأول أن الحركة عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة وذلك يوجب كون الانتقال مسبوقا بحصول الحالة المنتقل عنها فإذن حقيقة الحركة تستدعى المسبوقية بالغير وذلك ينافي الأزلية)
ويقول الباقلاني في "الإنصاف" و"تمهيد الأوائل":
(والدليل على إثبات الأعراض تحرك الجسم بعد سكونه، وسكونه بعد حركته. ولابد أن يكون ذلك كذلك لنفسه أو لعلة. فلو كان متحركاً لنفسه ما جاز سكونه، وفي صحة سكونه بعد تحركه دليل على أنه متحرك لعلة؛ هي الحركة) ...(والأعراض حوادث، والدليل على حدوثها: بطلان الحركة عند مجيء السكون؛ لأنها لو لم تبطل عند مجيء السكون لكانا موجودين في الجسم معاً، ولوجب لذلك أن يكون متحركاً ساكناً معاً، وذلك مما يعلم فساده ضرورة)
الإلكترون دائم الحركة فهو لا يقبل السكون (6) وحتى إثبات حدوثه من خلال إثبات بداية لتتابع الحركات السابقة يمكن التشغيب عليه من خلال بعض الظواهر التي تنفي وجود مسار حركي محدد يمكن تتبعه اللهم إلا إذا كان هناك إطار سببي يفرض قيودا على الحركة وهنا يكون جوهر الدليل السببية وليس الحركة.
ويقول الجويني في "لمع الأدلة" و"الإرشاد":
(وكون المرجح المخصص طبيعة: باطل أيضا فيستحيل "أن يكون مخصص العالم طبيعة؛ كما صار إليه الطبائعيون"؛ لأن تلك الطبيعة لا تخلو: إما أن تكون قديمة، أو حادثة فإن كانت قديمة، لزم قدم آثارها؛ فإن الطبيعة عند مثبتها لا اختيار لها، وهي موجبة آثارها عند ارتفاع الموانع. وقد صح حدوثها"، فإن كانت الطبيعة قديمة لزم قدم آثارها، وقد وضح حدوث العالم وإن كانت الطبيعة حادثة، افتقرت إلى طبيعة أخرى، ثم الكلام في تلك الطبيعة، كالكلام في تلك الطبيعة، كالكلام في هذه الطبيعة،)
هذا أيضا تصور حتمي ميكانيكي غير صحيح لأننا نعلم الآن من خلال "ديناميكا الفوضى" أن ثبات الأسباب المؤثرة في نظام ما يمكن أن ينبثق عنه نتائج مختلفة ومتغيرة ومتطورة ومتعاقبة من دون تجدد في تلك الأسباب الأساسية للنظام.
فالحاصل أن الجواهر والأعراض لا يصلحان لوصف شيء من المادة أو الطاقة الفيزيائية كما نعرفها اليوم ولو تطرقنا للزمان والمكان فسوف نصل لنتيجة مماثلة...وذلك لأن تنظيرات المدرسة الكلامية مثقلة بحمولة من التصورات البدائية عن الطبيعة تناقلها الأشاعرة عن المعتزلة عن الجهمية عن الفلاسفة وتسببت في أضرار جسيمة بالعقيدة المستقيمة دون أن تحقق الفائدة المرجوة منها في زمانهم ومن باب أولى في زماننا. ولا شك أن هذا الإرث به فوائد لمن يستطيع الانتقاء والتنقيح لكنه مهلكة للتابع المقلد الذي يتعامل معه كأصل توقيفي لصيانة الدين.
تعليقات
إرسال تعليق