(2) نقد كتاب شون كارول الصورة الكبيرة The Big Picture


العرض:
مازلنا في الفصل الأول و الذي كان محوره هو محاولة نفى السببية. و كارول لا ينفي السببية بالطريقة المعتادة التي تعتمد على غرابة فيزياء الكم بل ينفي السببية حتى في الفيزياء النيوتنية الكلاسيكية و لذلك فهو يرى أن لابلاس كان محقا  حين أجاب  سؤال  نابليون عن دور الله في نموذجه فرد عليه قائلا أننا لم نعد بحاجة إلى هذه الفرضية. بل و يراه مصيبا أيضا في حتميته الشديدة (لأن كارول يتبنى أحد تفسيرات ميكانيكا الكم الحتمية و التي هي العوالم المتعددة many-worlds و هي تفسير و ليست هي النظرية الكوسمولوجية المعروفة باسم الأكوان المتعددة multiverse)
كارول يعرض السببية على طريقة أرسطو - العلل الأربعة، الصورية و المادية و الفاعلية و الغائية -
و أن العناصر الأساسية (الأرض و الماء) يميلان إلى الحركة لأسفل و الهواء و النار يميلان للحركة إلى أعلى و الجسم يبقى ساكنا ما لم يحركه محرك. ثم يستعرض تطور مفهومنا عن الحركة من السبب المحرك إلى قانون حفظ الحركة الذي ينص على أن الجسم سيبقى دائما متحركا ما لم يوقفه شيء و كيف بدأ ذلك من عند يوحنا النحوي و ابن سينا وصولا إلى جاليليو و نيوتن. و بالتالي فإن حجة أرسطو التي تعتمد على أن كل شيء متحرك لابد و أن يكون هناك شيء آخر حركه ليتكون عندنا سلسلة سببية تصل بنا إلى المحرك الذي لا يتحرك. هي حجة غير فعالة الآن في ظل معارفنا الحديثة  و التي تلاشت فيها فكرة السبب و النتيجة تدريجيا حتى اختفت تماما و حل محلها النمط المستمر أو القانون الطبيعي الحاكم. فبعض الحركات تكون ذاتية السبب و السلسلة اللانهائية في الماضي قد تكون ممكنة. و ليس هناك حاجة لأشخاص يحركون الأشياء على المستوى الأعمق للفيزياء. ثم عرج على نيوتن و دليله على وجود الله و أنه لم يستخدم سببية أرسطو و إنما جعل دور الله هو التدخل من حين لآخر لإعادة ضبط الكون. و ختم بمبدأ السبب الكافي لليبنتز (لا شيء يحدث بدون سبب) و برر ملاحظتنا الدائمة بأن كل حدث يتقدمه حدث آخر بأنه خاصية من خواص الكون متعلقة بظروف نشأة الكون و هي الانتروبي أو العشوائية و التي يجب أن تزيد دائما أو تظل ثابتة مع الوقت لكنها لا تنخفض أبدا بشكل طبيعي و لهذا السبب ظهر ما يعرف بسهم الزمن أو اتجاه الزمن من الماضي إلى المستقبل رغم أن قوانين الفيزياء تنظر إلى الزمن بالتساوي و لا فرق عندها بين الماضي و المستقبل. و بالتالي فليس هناك لحظة ماضية هي السبب في وجود لحظة حالية أو مستقبلية. فنحن نتذكر الماضي و لا نتذكر المستقبل ليس لأن الماضي وقع و المستقبل لم يقع بعد و لا لأن الماضي هو سبب المستقبل و إنما لأن الانتروبي أقل في الماضي من المستقبل

الخلاصة : 1-ليس هناك أسباب و نتائج في عالمنا كما كنا نظن و إنما هناك قوانين
2- ليس هناك سلسلة من الأسباب تدلنا على مسبب أول
3- ما يجعلنا نتصور وجود سبب و نتيجة هو أن الكون يتجه دائما نحو زيادة الانتروبي مما نشأ عنه سهم أو اتجاه للزمن في ظاهر الأمر.

________________

النقد :
كارول أخطأ في فهم السببية فجعلها مثل آحاد التطبيقات العملية لقواعد أخرى أساسية صحيحة بصرف النظر عن وقوع أو عدم وقوع هذه التطبيقات. كأن تعلم ولدك الصغير أن 1+1=2 فكل مرة يحل فيها الولد  تلك المسألة بشكل صحيح لا يزيد من مدى صحة القاعدة نفسها. و إنما هو مجرد تطبيق فرعي مهم لنا نحن في حياتنا اليومية لكن ليس له أثر في القواعد الأساسية نفسها.
هكذا حصر كارول السببية في البحث عن الشخص المطبق للقاعدة الذي يتسبب في وجود نتيجة ما لكن لا السبب و لا النتيجة يمكن اعتبارهما بداية القصة أو أصل الظاهرة و إنما القوانين الفيزيائية هي الأصل.
و الصواب أن السببية ليست ما يحدثنا عنه كارول بل هي مفهوم أوسع من ذلك و تنطبق تماما على فكرة القانون الفيزيائي نفسه بل هي أوسع من ذلك لأنها تنطبق على العلاقات المنطقية و الرياضية  المجردة أيضا فيمكن القول أن القانون الفيزيائي هو أحد تطبيقات السببية و ليس أن السببية هي أحد تطبيقات القانون الفيزيائي كما يتصور كارول.

و لذلك كنت أشدد دائما على توضيح معنى السببية و بيان توافقها على فكرة القانون الفيزيائي و أن هذه هي الصيغة الصحيحة المناسبة لعصرنا هذا و أن السلسلة السببية غير معتمدة على الزمن لأنها ليست آحاد الأحداث فقط و إنما هى العلاقة القانونية المجردة التي تجسد خصائص الكون بما فيه من مادة و طاقة.
و من شاهد مناظرة كريج مع كارول يعلم أن كلمة السر المفقودة في هذه المناظرة كانت :

1- بيان المعنى الحقيقي للسببية 2-بيان استقلال السلسلة السببية عن الزمن.

فحينها كان سيتضح أن السلسلة السببية ليست هي فقط آحاد الأحداث المنتظمة في سلسلة زمنية و إنما هى العلاقة القانونية التي تحكم الزمان الفيزيائي نفسه و التي تظل صحيحة بعيدا عن التصور الضبابي للزمان الموجود في الفيزياء.
لأن القوانين الفيزيائية  قد تتلاعب بالحتمية الزمانية و المكانية و تؤثر فيهما لأن الزمان و المكان لم يعدا مفاهيم مطلقة في الفيزياء الحديثة.
فكل هذه المشاكل و غيرها من المشاكل – مثل التي تثيرها فيزياء الكم أيضا - يتم  حلها بمجرد توضيح معنى السببية
و لذلك "يجب" قراءة ما في هذا الرابط

https://abozaralghifari.blogspot.com/2018/12/blog-post_31.html?m=1

لتعلم أن قيام قانون واحد منتظم في عالمنا يثبت أن السببية قائمة في كل زمان و مكان و أنه لم يخالف ذلك شيء في هذا الكون و لا حتى في أكوان فيزيائية أخرى – بفرض وجودها- و أن هذا يؤدي بنا إلى سلسلة سببية يستحيل وجودها إلا بوجود قيوم قائم بنفسه مقيم لهذه السلسلة بائن عنها.

و حبذا الاطلاع أيضا على هذا  الرابط الذي يبين الفرق بين السببية و الحتمية و يبين استقلال السببية عن الزمن

https://abozaralghifari.blogspot.com/2018/12/blog-post_19.html

لكن الذي لم أتوقع أبدا وجوده و  أدهشني حقا هو وقوف كارول على المعنى الحقيقي للسببية الذي نتبناه هنا -  الذي هو احتكام الكون إلى قوانين الفيزياء - ثم حيدته سريعا عنه وعودته إلى رجل القش الذي ألبسه ثياب السببية.
يقول كارول في صفحة 42-43
Can’t we always give a reason for what happens, namely “the laws of physics and the prior configuration of the universe”? That depends on what we mean by a “reason.” It’s important to first distinguish between two kinds of “facts” we might want to explain. There are  things that    happen—  that is, states of  the universe (or parts thereof) at specific moments in time. And then there are  features of the universe, such as the laws of physics themselves. The kinds of reasons that would suffice to explain one have a different character from the other. When it comes to “things that happen,” what we mean by a “reason” is essentially the same as what we mean when we refer to the “cause” of an event. And yes, we are free to say that events are explained  or  caused by “the laws of physics and the prior configuration of the universe.” That’s true even in  quantum  mechanics,  which  is  itself  sometimes  erroneously  offered  up  as an example of things (like the decay of an atomic nucleus) happening without reasons. If that’s what one is looking for in a reason, the laws of physics do indeed provide it. Not as some metaphysical principle but as an observed pattern in our universe.
الترجمة :
(ألا يمكننا دائما إعطاء "سبب" لما يحدث و يكون هو القوانين الفيزيائية و الظروف الأولية للكون؟ هذا يعتمد على الذي نعنيه بكلمة "سبب" من المهم أولا أن نفرق بين نوعين من الحقائق نريد تفسيرهما هناك أشياء تحدث و التي هي حالات الكون (أو أجزاء منه) في لحظات معينة من الوقت . ثم هناك خصائص الكون مثل القوانين الفيزيائية نفسها. أنواع الأسباب التي ستكون كافية لشرح أحدها ستكون مختلفة في سماتها عن الأخرى. عندما يتعلق الأمر "بالأشياء التي تحدث" فما نعنيه بالسبب  هو في الأساس نفس ما نعنيه عندما نشير إلى "سبب" الحدث. و نعم ، نحن أحرار في القول بأن الأحداث تفسرها أو تسببها "قوانين الفيزياء و الظروف الأولية للكون ''  هذا صحيح حتى في ميكانيكا الكم و التي يتم عرضها أحيانا بشكل خاطئ كمثال على أشياء تحدث بدون سبب (مثل تحلل نواة الذرة) إذا كان هذا ما يبحث عنه المرء في السببية ، فإن قوانين الفيزياء توفره بالفعل. ليس كمبدأ ميتافيزيقي ولكن كنمط ملاحظ في كوننا .)

ثم سرعان ما يحيد عن هذا الإقرار  بدعوى عجيبة غريبة وهي أن الناس حين تتكلم عن السببية لا تقصد هذا المعنى!!!

However, that isn’t really what people have in mind when they’re searching  for reasons.  If someone asks  “Why did that  tragic  shooting  occur?” or “Why is  the  average temperature of  the  Earth’s atmosphere rising  so rapidly?” answering with “Because of the laws of physics and the prior configuration of the universe” isn’t going to be satisfying.

الترجمة :
(و مع ذلك فهذا ليس الذي يدور في ذهن الناس حين يبحثون عن الأسباب. إذا سأل أحدهم لماذا وقع إطلاق النار المأساوي هذا؟ أو لماذا يرتفع متوسط درجة حرارة الغلاف الجوي للأرض بهذه السرعة؟ فإن إجابة :  "بسبب قوانين الفيزياء و الظروف الأولية للكون" لن تكون مرضية له.)

هكذا رجح كارول بين مفهومين متضادين للسببية أحدهما يجعلها مختلفة عن القانون الفيزيائي و مستبدلة به و الآخر يجعلها متوافقة مع القانون الفيزيائي بل و يجعل القانون الفيزيائي نفسه احد تطبيقاتها. ثم اختار المفهوم الضعيف المتهالك رغم إقراره بصحة المفهوم الآخر و دون مناقشة عواقب و لوازم هذا الإقرار لماذا؟ لأن الإجابة لن تكون مرضية لأحدهم!! يا لها من حجة!!

و يقول في صفحة 63

It might seem strange to describe the world as operating according  to unbreakable physical laws, and then turn around and deny causality a central  role.  After all,  if the  laws of  physics  predict what will  happen  at the next moment from what the situation is now, doesn’t that count as “cause and effect”? And if we don’t think that every effect has a cause, aren’t we unleashing  chaos  on  the  world,  and  saying  that  basically  anything  can  happen? The strangeness evaporates once we appreciate the substantial difference between the kind of relationship of the past to the future that we get from the laws of physics, and the kind we usually think of as cause and effect. The laws  of  physics take  the  form  of  rigid  patterns: if  the  ball  is  at  a  certain  position  and  has  a  certain  velocity  at  a  certain  time,  the  laws  will  tell  you  what the position and velocity will be a moment later, and what they were a moment  before. When we think about cause and effect, by contrast, we single out certain events as uniquely  responsible  for events that come afterward, as “making them happen.” That’s not quite how the laws of physics work; events simply are arranged in a certain order, with no special responsibility attributed to one over any of the others. We can’t pick out one moment, or a particular aspect of any one moment, and identify it as “the cause.” Different moments in time in the history of the universe follow each other, according to some pattern, but no one moment causes any other.
الترجمة :
( قد يبدو غريبا أن نصف الكون بأنه يعمل وفقا لقوانين فيزيائية صارمة لا تنخرم  ثم نتحول بعد ذلك إلى إنكار أن يكون للسببية دورا مركزيا. بعد كل شيء إذا كانت قوانين الفيزياء تتنبأ بما سيحدث في اللحظة القادمة انطلاقا من الوضع الحاضر، ألا يعد ذلك سببا و نتيجته ؟ و إذا كنا لا نعتقد أن لكل نتيجة سببها ألا نكون بذلك قد أطلقنا العنان للفوضى في الكون و يمكن القول حينها أن أي شيء يمكن أن يحدث؟
تتبخر الغرابة عندما نقدر الفرق الجوهري بين نوع العلاقة بين الماضي و المستقبل الذي نحصل عليها من قوانين الفيزياء و نوع العلاقة الذي نفكر فيه عادة على أنه سبب و نتيجة. قوانين الفيزياء تأخذ شكل الأنماط الجامدة، إذا كانت الكرة في مكان محدد و لها سرعة محددة في وقت محدد فإن قوانين الفيزياء ستخبرك عن المكان و السرعة في الوقت السابق و اللاحق. و على النقيض من ذلك عندما نفكر بالطريقة المعتادة في السبب و النتيجة فإننا ننتقي أحداثا معينة و نجعلها بمفردها مسؤولة عن أحداث أو نتائج لاحقة. ليس هكذا تماما  تعمل قوانين الفيزياء و إنما يتم ترتيب الأحداث بنظام معين مع عدم وجود مسؤولية خاصة منسوبة لواحد منهم على الآخرين . لا يمكننا اختيار لحظة محددة أو جانب معين في أي لحظة و تعريفه على أنه "السبب" لحظات الزمن يتبع بعضها بعضا في تاريخ الكون وفقا لنمط معين لكن ليست أي واحدة منهم سببا في غيرها.)

هنا هو يقر بنفس الفكرة و يتعلق بنفس المفهوم القاصر حول السببية بأنها آحاد التطبيقات و ليست القاعدة نفسها  رغم إقراره بأن القوانين و القواعد نفسها يمكن أن نعتبرها سبب و نتيجة و أن الأمر سيكون مختلفا تماما في ظل هذا التصور.

و رغم أنه لا حاجة لنا في الخوض في موضوع سهم الزمن إلا أنه ينبغي التنبيه على أن قول كارول أن سهم الزمن أو تدفق الزمن من الماضي إلى المستقبل ما هو إلا انعكاس لزيادة الانتروبي. ليس شيئا مسلم به علميا كما يظن البعض و ليس عليه أدلة تجريبية و هناك نظريات فيزيائية أخرى تقول بخلاف ذلك تماما و أن العلاقة بين الزمن و الانتروبي ليست سببية و انما توافقية . أي أنه لا يوجد أي سبب فيزيائي يجعل الانتروبي هي المسؤولة عن  تدفق الزمن من الماضي الي المستقبل كما نعرفه كما أكد ذلك البروفيسور ريتشارد مولر من جامعة بيركلي في نظريته الحديثة عن الزمن و أكد أيضا أن السفر في الماضي و المستقبل مستحيل و فسر الحاضر  وفقا للنسبية العامة علي انه يخلق من تمدد الفضاء و بالتالي فالمستقبل ليس موجودا بعد و الماضي لا يمكن العودة إليه .
و هي نظرية لها تنبؤات قابلة للاختبار بخلاف فكرة أن تدفق الزمن  ما هو الا انعاكس للانتروبي فهي لا تقدم أي تنبؤات يمكن التحقق منها .

https://thesciencepage.com/the-physics-of-time-why-time-travel-may-be-impossible/
الخلاصة :
1- القوانين الفيزيائية هي  تطبيق لمفهوم السببية و ليس العكس و كارول يقر بذلك رغم مراوغته

2- السلسلة السببية لا يمكن أن تكون قائمة بنفسها و لذلك فهي تدل على الخالق المقيم

تعليقات