بالأمس مُنحت جائزة نوبل في الطب لكل من شيمون ساكاجوشي وماري برونكو وفريد رامسديل, مقابل اكتشافاتهم الرائدة في مجال المناعة.
طيب الناس دول اكتشفوا ايه بالظبط؟ وايه علاقة اكتشافهم بتفنيد نظرية التطور؟
الإجابة ستكلفك فنجان قهوة وشوية تركيز حتى تفهم دليل هذا الكلام !
الاكتشاف كان عن الخلايا  التائية التنظيمية المناعية (regulatory T cells) ودور جين FOXP3 فيها, وهذه الخلايا هي الملونة باللون الأحمر في الصورة أثناء هجومها على الخلايا الزرقاء, والتي تمثل خلايا تائية أيضا من الجهاز المناعي, وليس كما قد تتصور أنها خلايا غريبة سرطانية أو بكتيرية مثلا.
لكن لماذا تهاجم خلايا الجهاز المناعي بعضها البعض؟ يا ترى هل هذا خلل أم آلية عمل مذهلة وفي غاية الإبداع؟
إذا عرفت أصل المشكلة ستعرف أن حلها " الذي تشاهده أمامك في الصورة " كان في قمة الروعة.
المشكلة التي تواجه الجهاز المناعي أنه ينبغى أن يكون عنده أسلحة جاهزة "أجسام مضادة ومستضدات أو مستقبلات" تمكنه من محاربة "كل" الأجسام الغريبة والفيروسات والفطريات والطفيليات التي يمكنها مهاجمتنا. 
وذلك لأن أي جرح صغير في اصبعك يكون  بمثابة غزو فضائي,  ويدخل ملايين الغزاة الغرباء لجسمك, وتبدأ مهمة الجهاز المناعي في مطاردتهم والقضاء عليهم.
وهذه ببساطة مهمة مستحيلة !! لعدة أسباب:
1- لكي يكون الجهاز المناعي مستعدا لهذه المواجهات فعليه أن يمتلك ترسانة أسلحة متجددة تضم عشرة تريليون شكل مختلف من الأجسام المضادة والمستقبلات، وحتى يتمكن من تخزين هذا الكم المعلوماتي في قاعدة بيانات يمكن استنساخها مثل باقي معلوماتنا الوراثية، فهذا أمر يتطلب ملايين الجينات في حين أن الجينوم البشري كله لا يتعدى الخمسة وعشرين ألف جين فقط. (فلا يمكن أن تكون هذه المعلومات مخزنة مسبقا في الجينوم)
2- أن خلايا الجهاز المناعي لن تحارب الأجسام الغريبة إلا إذا اكتشفت وجودها, ولن تكتشف وجودها إلا إذا ارتبطت بها, ولن ترتبط بها إلا إذا كانت تملك أجساما مضادة ومستقبلات تمكنها من الارتباط, تماما مثل المفتاح والقفل. (فلا يمكن الانتظار حتى يدخل الجسم الغريب المسبب للمرض أولا, ثم يبدأ الجهاز المناعي في تصنيع الأجسام المضادة المناسبة للقضاء عليه).
ايه رأيكم حد يعرف يحل المشكلة العويصة ديه؟ 
سبحان الله جل جلاله هو بديع السماوات والأرض متقن كل شيء خلقه وهو بكل شيء عليم
فقد رتب الله حلا عجيبا لهذه المشكلة, وبفضل هذا الحل أصبح كل واحد منا يمتلك مكتبة هائلة بها أجسام مضادة لمعظم الكائنات الممرضة التي عرفتها البشرية والتي لم تعرفها أيضا.
هذا الحل كان بالسماح للخلايا البائية والتائية بإعادة تشكيل الجينات الخاصة بإنتاج المستقبلات والأجسام المضادة لتعطي في كل مرة شكلا فريدا لم يتم إعداده مسبقا. فإذا واجه هذا الجسم المضاد جسما غريبا يرتبط به, يتم استنساخه سريعا حتى يصبح جيشا كاملا يهاجم الأجسام الغريبة. فنتعافي بفضل الله في عدة ساعات أو أيام أو أسابيع , حسب شدة المرض.
لكن تصنيع الأجسام المضادة بهذه الطريقة يمثل فضاء مرعب من الحرية شبيه بالطفرات. مما ينتج عنه بالضرورة وجود النافع والضار. وهنا يأتي دور الغدة الزعترية (للخلايا التائية) ونخاع العظام (للخلايا البائية) كهيئة "رقابية مركزية" تمر عليها كل الخلايا التائية والبائية لتصل إلى النضج وهناك يتم اختبارها فإذا كانت أشكال المستقبلات والأجسام المضادة نافعة في علاج الأمراض يتم تنشيطها وإذا كانت مضرة أو تهاجم خلايا أجسامنا يتم إعدامها ولا يخرج من الغدة الزعترية ونخاع العظام سوى 2٪ فقط ويتم إعدام الباقي الذي نتج عن هذا الفضاء الحر فيما يعرف بعملية الانتخاب السلبي. 
ثم يأتي دور "الهيئة الرقابية الطرفية" والتي هي الخلايا التائية المنظمة التي حصد مكتشفوها نوبل في الطب لهذا العام, وهي تمشط الجسم وتقوم بنفس عمل الرقابة المركزية لكن بآليات أخري, كنوع من المراجعة أو "الخطة ب " فإذا اكتشفت أن هناك خلايا مناعية لا ينطبق عليها شروط الصحة ومع ذلك أفلتت من الرقابة المركزية, تقوم فورا بالفتك بها كما هو في الصورة 👆. 
ولو كان هناك خلل في هذه الهيئات الرقابية (المركزية والطرفية) فإن الجسم يكون معرض لأمراض الجهاز المناعي الفتاكة التي تؤدى إلى الوفاة، وهذا ثابت في البشر وغيرهم مثل هذه التجارب التي أجريت على الفئران (1).
تقول الدراسة :
(كان لدى الفئران ذات النقص المزدوج (عطب في الهيئة الرقابية المركزية والطرفية)  مناعة ذاتية ظهرت سريعاً في وقت مبكر جدًا من حياتهم كما كانت أعمارهم قصير للغاية). انتهى
وذلك لأن هذا الفضاء الحر ينتج عنه بالضرورة ما يهاجم الجسم ويفتك به حتى ينهار النظام البيولوجي المتمثل في جسم الكائن الحي. 
وهذا هو موضع الربط بين اكتشاف هؤلاء العلماء الثلاثة الذين حصدوا نوبل وبين نظرية التطور.
وقد ذكرت هذا الربط من قبل في الحلقة العاشرة من سلسلة معضلة داروين الأخيرة.
فنحن الآن أمام محاكاة مصغرة لآليات التطور تحصل بداخلك 
1- الفضاء الحر الذي ينتج الأجسام المضادة يشبه الطفرات لأنه يأتي بالمفيد والضار
2- الخلايا المناعية الصالحة, تشبه استراتيجية التعاون لأن وجودها يحافظ على النظام العام داخل الجسم
3- الخلايا المناعية غير الصالحة, تشبه استراتيجية الأنانية لأن وجوده يدمر النظام العام.
4- وأما الانتخاب فهو الفارق الجوهري:
فالفرق بين الانتخاب السلبي (الهيئات الرقابية) والانتخاب الطبيعي (الآلية الداروينية) أن الأول ينتقى ما يصلح للنظام بغائية مسبقة (عنده بيانات النظام العام الذي يريد الحفاظ عليه) أما الثاني فينتقى ما يرفع الكفاءة, بدون غائية وبصرف النظر في عواقب الأمر على النظام العام. 
فالمناعة التكيفية تضرب مثال تجريبي لما قد ينتج عن فضاء الحرية وما يترتب عن ذلك إذا تم تولى الأمر بطريقة غائية (هدفها الصالح العام) وفقا لهيئة رقابية أو بطريقة غير غائية (مجرد رفع الصلاحية الفردية) وفقا للانتخاب الطبيعي. 
ولذلك فهي محاكاة كاملة لدور آليات التطور والتصميم الذكي في النظام البيولوجي والنتيجة اللازمة لكل منهما. 
ولو استحضرنا معضلة التعاون وفضاء الطفرات الحر المولد لاحتمالات للانهائية لأنانيين مدمرين للنظام البيولوجي لوجدنا أنفسنا أمام حلين لا ثالث لهما:
1- إما انهيار النظام البيولوجي نتيجة دعم الانتخاب الطبيعي للأنانية, تماما مثلما يقضى الجهاز المناعي على الجسم في غياب الهيئات الرقابية الغائية.
2- إما وجود هيئة رقابية كونية يمر عليها كل تغير يحدث في أي خلية لكائن حي يعيش على سطح الأرض لكي تصطفى بغائية, وتقدر ما يصلح للنظام ويضمن استمراره وتمنع ما يدمره. 
ولأن الحياة مازالت مستمرة فلابد أن الحل الثاني هو الصحيح, ولابد أن الأمر لم يترك يوما للطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي وإنما هو خلق وتدبيره العليم الخبير الرقيب سبحانه.

تعليقات
إرسال تعليق