بنظرة سريعة في حواراتي السابقة مع الزميل محمد تقي 1 ,2 ,3 ,4, 5. ستكتشف بسهولة أنه شخص مؤدب ومجتهد لكنه مسفسط حتى النخاع, (أسأل الله له الهداية).
وفي آخر حوار بيننا 6 حول معضلة التعاون والمحاكاة المنشورة في ورقتي 7 عن الأنانية المشروطة (رابط كود البايثون لمن أرد تجربته 8), أراد أن يجربها بنفسه - وهذا أمر جيد- فقلت له أن المحاكاة يجب ضبطها حتى تعطي تمثيلا صحيحا للاستراتيجيات التي تريد اختبارها وإلا فالخروج منها باستنتاجات عن استراتيجيات لم يتم اختبارها أو تمثيلها بشكل صحيح هو محض عبث.
تماما مثلها تدخل سباق ضد سيارة فيراري بعد أن تتلف إطاراتها أو تثقب خزان الوقود, ثم تفخر بأنك فزت على فيراري!! فالحقيقة أن فيراري لم تدخل السباق أصلا.
فلو كنت تتصور أن خسارة استراتيجية الأنانية المشروطة ضمن ظروف لا تسمح لها بتمثيل صحيح داخل المحاكاة, هي خسارة حقيقية تفسد استنتاجات الورقة, فهذه تعاسة وسخافة فكرية, لأنني أول من قام بذلك داخل الورقة نفسها
فهذه النقاط الزرقاء المرصوصة رأسيا على أقصى اليسار, تمثل مجموعات لمتعاونين نجحوا في البقاء وتركوا وراءهم أنانيون منقرضون, فهل هذا يعد نقدا لنتائج الورقة وهو ضمن نتائج الورقة أصلا؟
بالطبع لا, وليست هذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن ينتصر فيها المتعاونون على الأنانيين داخل المحاكاة بل هناك العديد من صور التمثيل السيء لاسترااتيجية الأنانية المشروطة التي تجعل الهجرة غير ممكنة عمليا, مما ينتج عنه انقراضهم وانتصار المتعاونون, لكن هذا لا يعنى أن الصراع الديناميكي نفسه بين استراتيجية الأنانية المشروطة والتعاون هو صراع احتمالي لا يمكننا الجزم فيه بشيء, وإنما غاية ما في الأمر أن هذه كلها طرق تشغيل معيبة للمحاكاة, ولا تمثل ما نريد اختباره أصلا. فلا يحق لك أن تستنتج من هذه النتائج شيء.
وقد ذكرت هذا بوضوح للزميل قبل أن يجرب المحاكاة, وكان مما ذكرته هو تغيير معدل نمو الموارد وجعلها بطيئة جدا, لأن هذا يجفف الموارد فلا يتبقى لها مقدار من الطاقة مناسب للهجرة التي هي محل الدراسة.
فما كان من الزميل سوى أن ذهب وجعل نمو الموارد بطيء جدا😄😂😂, فجعله النصف تقريبا (0.095 بدلا من 0.2 ), وسجل فيديو ساعة ونصف ونشر حوالى عشرة منشورات على الفيسبوك يحتفل فيهم بانتصاره على في هذا التحدي!!! وأنه أثبت خطأ كلامي!!!
يعنى والله العقل زينة فعلا.
طيب الأمر بسيط جدا, لو عدلت معدل نمو الموارد وجعلته 0.095 عليك أن تعدل معدل استهلاك الأنانيين من 99% إلى 90% فقط. وسوف تعود الأمور إلى نصابها وينتصر الأنانييون المشروطون مرة أخرى وينقرض التعاون.
وهذا ما فعلته هنا 👇
![]() |
الأزرق يمثل الانانية المشروطة والأخضر يمثل المتعاون والاحمر يمثل الأنانية التقليدية |
بل حتى لو جعلت معدل نمو الموارد ضعيفا جدا جدا 0.45 أو 0.50 وعدلت معدل استهلاك الأنانية إلى من 99% إلى 55% أو 60% فسوف ينتصر الأنانيون المشروطون في هذه البيئة القاسية الغير صالحة للعيش ثم ينقرضوا بعد انقراض المتعاونون بفترة كبيرة.. انظر 👇
مع ملاحظة أنني استخدمت random seed = 100 وهي نفس القيمة التي اختارها الزميل في الفيديو, وعندما تضع قيمة محددة لل random seed فإنك تحول نموذج المحاكاة إلي نموذج حتمي يعطيك النتائج بنفس الأرقام تقريبا في كل مرة, أما إذا تركت random seed فارغة فإن النموذج يكون عشوائيا تماما, وإن كان الأمر لا علاقة له بالحتمية والعشوائية أصلا. وإنما تتعلق دراسة ديناميكا الاستراتيجيات بقضية السببية, بمعنى أنك ستحصل على النتيجة ما دام هناك ترابط سببي حقيقي مع مسببها, فالأنانية المشروطة تغلب التعاون بسبب حقيقة هذه الاستراتيجيات وديناميكية تفاعلها فيما بينها, وليست الأمر متوقفا على حتمية أو عشوائية النموذج. هذه نقطة جانبية أردت توضيحها لأن الزميل لم يفهم ذلك رغم تكرار شرحي له عدة مرات.
ربما توقع الزميل أن أقوم بثقب فقاعته عن طريق خفض معدل استهلاك الموارد من قبل الأناني, فبادر بتقديم الاعتراضات التالية:
اعتراضه الأول: لو قمت يا أحمد إبراهيم, بخفض معدل استهلاك الأناني المشروط للموارد عن 99% فأنت تتلاعب بالمسميات لأن هذا في حقيقة الأمر متعاون مشروط وليس أنانيا مشروطا! لماذا؟ لأنه يحافظ على الموارد فلا ينقرض نتيجة استهلاكها.
الجواب على اعتراضه الأول:
طبعا هنا كم كبير من العبث يحتاج إلى تفكيكه, فخفض معدل استهلاك الأناني للموارد من 99% إلى 90% أو 60% أو حتى 51%, في ظل استهلاك المتعاون 50% من الموارد فقط, يجعل من ينافسه على المورد باستهلاك كم أكبر ولو طفيف مثل 51% هو منافس أناني بكل تأكيد.
وهذا أمر معروف في الديناميكا التطورية بمختلف مدارسها, ففي إطار نظرية اللعبة ستجدهم يسمون هذا التدرج في صفة التعاون وتصنيف الدرجة الأعلى بالأنانية والأدني بالمتعاونة 9 Continuous Prisoner's Dilemma
وفي إطار الديناميكا التكيفية ستجدهم يسمونها السمة الكمية quantitative trait كما في هذه الورقة 10 تجدهم يشرحون لك الأمر بأنه في لعبة الموارد العامة المستمرة, فإن السمة الكمية تصف مقدار الاستثمار التعاوني في المورد العام.
a quantitative trait, describing the amount of cooperative investment
أي أن هناك مقدار ما يمثل تعاون كل فرد وبذله, فمن يزيد عن هذا المقدار بأي درجة يكون أكثر تعاونا ومن يقل يكون أكثر أنانية, ودائما هناك درجات أكبر ودرجات أقل, ولذلك فالتعاون مهدد دائما وأبدا من الأنانية.
وهذه أسس الديناميكا التطورية والتكيفية فلا أعلم ماذا أفعل بعد أن شرحت الأصول والفروع.
بل لو أحلتك إلى دوكينز نفسه وهو يشرح أن ربع عين أفضل من خلية حساسة للضوء ترى خيالات, والتي هي بدورها أفضل من لا شيء, لكان هذا يفي بالغرض لفهم كيفية عمل الانتخاب الطبيعي على السمات الكمية. لكننا للأسف نحتاج أن نشرح للدراونة العرب كل شيء عن نظرية التطور.
والنقطة الأخري في اعتراضه أنه جعل مقياس الحكم على الاستراتيجية بأنها أنانية بأن تكون غير مستقرة وأن تنقرض. وهذا هراء لم يقل به أحد, فالاستراتيجيات الأنانية منها المستقر ومنها غير المستقر, وليس من معايير الحكم على الاستراتيجية بأنها أنانية أن تنقرض أو لا تنقرض.
يمكنك النظر في الصورتين بالأعلى لتجد بأنه في احداهما انقرض الأنانييون وفي الأخرى لم ينقرضوا, رغم أنهم قضوا على المتعاونيين في كلا الحالتان.
اعتراضه الثاني: أنت خدعتنا, الأنانيون المشروطون لم ينقرضون بعد أن انقرض المتعاونون في محاكاتك, كما أن الحياة لا تنتهى بانقراض التعاون, لكنك خارج الورقة تروج لفكرة معضلة التعاون والانتحار التطوري ومأساة الموارد المشتركة. فأين هذا كله في ورقتك يا رجل؟
الجواب على اعتراضه الثاني:
يا له من اكتشاف عظيم أن الأنانييون المشروطون لم ينقرضوا في محاكاتي 👏 أنت مبهر حقا.
طبعا المشكلة هنا أن الدراونة العرب عندما أحدثهم عن معضلة التعاون والانتحار التطوري ومأساة الموارد, يظنون أن كل هذه الأشياء من اختراعي وبالتالي فأنا المطالب بإثباتها, فإذا كانت ورقتي لم تقدم الإثباتات الكافية على هذه الأشياء فلابد أن الأمر فيه خدعة.
الحقيقة أن انقراض المجتمعات الحية بعد انقراض التعاون على يد الأنانييون, فيما يعرف بالانتحار التطوري أومأساة الموارد المشتركة, هو أمر ثابت لا جدال فيه وعليه كم هائل من الأبحاث النظرية والتجريبية.
فلم أقدم ورقتي لإثبات شيء من هذه الأشياء الثابتة أصلا. وإنما قدمت الورقة لتجاوز العقبات الداروينية التي تواجه الأنانية في اجتياح المجتمعات المتعاونة مما يزيل القشة التي يتعلق بها الدراونة كتفسير تطوري لوجود واستمرار التعاون بين الكائنات الحية.
وهذا كله مذكور وموضح في ورقتي التي يفترض بمن ينتقدونها أنهم قرأوها واستوعبوها جيدا قبل اتحافنا بانتقاداتهم اللوذعية هذه.
اقتباس من الورقة:
(بالتأكيد، إن إنتاج الموارد المشتركة أو العامة الذي نعنيه لا يكون مستقلاً عن المتعاونين، كما في النموذجين الواردين في هذه الورقة. بل يجب أن يعتمد إنتاجه على المتعاونين. فعلى سبيل المثال، تفرز الميكروبات مواد أساسية تنضب بعد انقراض المتعاونين. ويمكن للأنانيين أن يدفعوا بالسكان بأكملهم نحو الانقراض؛ وهو توقّع تطوري راسخ. وقد ظهر هذا المآل القوي في العديد من الدراسات النظرية والتجريبية، ويُعرف بمأساة الموارد المشتركة أو الانتحار التطوري 29،30،31. ويمكن أن تحدث هذه الظاهرة إذا كان لدى الأنانيين (راكبي بالمجّان) ميزة صلاحية على المتعاونين (النوع الأصلي) في بيئة يُقرِّر أسسها المتعاونون
حتى الآن، اقترحت العديد من الأوراق البحثية السابقة أفكارًا متقاربة. ومع ذلك، فإن آليات الدفاع لدى المتعاونين تظل دائمًا عائقًا كبيرًا. ونعتقد الآن أن استراتيجيات الأنانية المشروطة يمكن أن تتجاوز هذه العوائق.) انتهى الاقتباس.
فالأنانية التقليدية تنجح بالفعل في احداث انتحار تطوري ومأساة موارد, لكنها تفشل في بعض السياقات نتيجة آليات التطور الإضافية, فلذلك جاءت ورقتي بالأنانية المشروطة لتحقيق هدف محدد, وهو اختراق تلك الآليات الإضافية وقد نجحت في ذلك بجدارة ولله الحمد والمنة.
وأما وقوع الانتحار التطوري للأنانية المشروطة فهو متعلق بتحقق شروط الانتحار التطوري من اعتماد المورد على المتعاونين أو كون المتعاونين أنفسهم هم المورد.
اعتراضه الثالث: يجب خفض الموارد بل وجعلها متغيرة بين الفصول فيقع الجفاف والتصحر تارة والفيضانات تارة وغيرها من الكوارث لأن هذا أكثر واقعية, ولأنه عامل مؤثر على الاستراتيجيات وسوف يمنع انتصار الأنانية المشروطة وبالتالي الانتحار التطوري ومأساة الموارد.
الجواب على اعتراضه الثالث:
واقعية المحاكاة تتعلق بالتمثيل الصحيح لما تريد اختباره وليس بتمثيل كل شيء وأي شيء. وهناك أوراق كثيرة درست معدل حدوث الكوارث catastrophe rate ومتى يتسبب في حدوث انتحار تطوري 11, فمن العبث أن تعتبر نتائج دراسات معدل حدوث الكوارث خاطئة أو غير واقعية لأنها لم تدرس معدل تكاليف الهجرة أو الانزياح الجيني.
اعتراضه الرابع: يجب السماح للهجرة خلال 30% فقط من زمن المحاكاة لتكون واقعية أكثر, ونمنعها 70% من الوقت لأن الطيور مثلا لا تهاجر في جميع شهور السنة.
الجواب على اعتراضه الرابع والأخير:
طبعا تهريج واضح لأنني لم أزعم أنني أقوم بعمل نموذج محاكاة لهجرة كائن معين حتى ألتزم بمعدل معين, فانتقال الفيروس أو البكتيريا من خلية لخلية مجاورة تسمي هجرة وانتقال طيور الواقواق من قارة لقارة أخري تسمي هجرة, وانتقال أسماك السلمون من الأنهار إلى المحيطات أيضا تسمى هجرة. فعن أي 30% تحدثني؟
ومع ذلك فهناك نماذج تصف وقوع مأساة موارد في الهجرات الموسمية 12 وذلك يكون بأنها لا تجد مكاننا تعشش فيه عند وصولها, مما يدفع العشيرة للهجرة المبكرة وبالتالي موتها من البرد القارس.
فتحديد موعد الهجرة الموسمية نفسه يمكن اعتباره سمة كمية ويتم صياغة نموذج يمثل استراتيجية الأنانية المشروطة فيه, لا أن تأتي على نموذج استهلاك موارد فتحشر فيه كل شيء بدون فهم أو علم.
تعليقات
إرسال تعليق