سمعت هذا المقطع للدكتور مساعد الطيار وعندي بعض الملاحظات عليه, خصوصا في الدقائق من 45 إلى 55:
وإن كان الدكتور زغلول النجار وكثير من المشتغلين في الإعجاز العلمي عندهم أخطاء علمية ممزوجة بأخطاء شرعية ومبالغات وتأويلات تصل إلى درجة التحريف فعلا, فالاشكال الأكبر هو في حصرهم المعنى القرآني في تفسيرهم ونفي باقي المعاني المحتملة وهذه كارثة فعلا كما يقرر الشيخ مساعد الطيار حفظه الله.
لكن على الطرف الآخر هناك تشدد أيضا وحصر للمعنى القرآني في مجموعة مفاهيم محددة ورفض غيرها رغم امكانية الجمع بين المعاني القديمة والحديثة, والصواب أن القرآن ليس حكرا على أحد فهذا كلام الله, وللشيخ ابن عثيمين تقرير بديع في هذه المسألة, يقول رحمه الله :
(لكن هنا مسألة أحب أن أنبه عليها إني أريد منكم أن تحاولوا أولًا: فهم القرآن بأنفسكم، اقرأ الآية، تدبرْ معناها، ثم سيكون لديك شيء من المعنى، بعد ذلك ارجع إلى أقوال المفسرين؛ لأن تعويد الإنسان نفسه على أخذ المعاني -أو بعبارة ثانية على تفسير القرآن بنفسه- يكسبه فهمًا كثيرًا؛ لأنه امتثال لأمر الله ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾، لكن لا تجزم إذا كان الأمر ليس بواضح إلا بعد مراجعة كتب التفاسير.....المسألة الثانية في التفسير: قال العلماء: يرجع أولًا إلى تفسير القرآن بالقرآن، وهذا كثير، ثم إلى تفسيره بالسنة، ثم إلى تفسيره بأقوال فقهاء الصحابة ولا سيما من لهم عناية بتفسير القرآن كابن عباس وابن مسعود، ثم إلى كبار التابعين الذين تلقوا التفسير عن الصحابة. فمثلًا إذا قال لك قائل: ما هي القوة المذكورة في قول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال ٦٠]؟ ننظر في القرآن ما نجد تفسيرًا لها، لكن نجد السنة قال النبي ﷺ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»(٢)، إذن نفسر القوة بأنها الرمي، أي تعلم الرمي، والرمي في كل زمان ومكان بحسبه، كان الناس في الأول يرمون بأيش؟
* الطلبة: بالسهام.
* الشيخ: بالنبال وما أشبهها، ثم صاروا يرمون بالبارود بالبنادق بالرصاص، ثم صاروا الآن يرمون بالصواريخ قريبة المدى وبعيدة المدى، والقوة هي الرمي الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام يشمل أي رمي يكون حسب أساليب الحرب التي في وقته. كذلك لو قال لك قائل: ما هو يوم الدين؟ ننظر القرآن فسره قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار ١٧ - ١٩] يعني إذن يوم الدين هو اليوم الذي لا ينفع فيه إلا العمل ولا يملك فيه أحد لأحد منفعة، وأمثال هذا كثير. فإذن نفسر القرآن بالقرآن أولًا، ثم بالسنة ثانيًا، ثم بأقوال الصحابة لا سيما المعتنون بالتفسير، ثم بأقوال التابعين الذين أخذوا التفسير عن الصحابة كمجاهد. ولا يعني هذا أننا إذا رأينا الآية تحتمل معاني أخرى غير ما ذكر أن نقتصر على ما ذكر؛ لأن كلام الله تعالى أوسع من أن يحيط به البشر، قد يفهمون معنًى ونحن نفهم معنًى آخر للآية، لكن إن كان يضاد ما فهمه الصحابة والتابعون فإننا لا نقبله، أما إذا كان لا يضاده فلا مانع من أن نقول: الآية أيش؟ واسعة، الآية واسعة تشمل هذا وهذا؛ لأن كلام الله واسع.)انتهى.
فلا يقال هنا على طريقة الشيخ مساعد الطيار أن تفسير الرمي بالصواريخ يعد تحريفا لأن السلف لم يقولوا به, أو يقال لمن فسر الرمي بالصواريخ هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم هذا المعنى أم أنك أعلم بكتاب الله ومعانيه من النبي؟
فهذه مغالطات في الحقيقة لأن كلام رب العالمين أوسع من أن يحيط به البشر, وينعكس فيه علم الله فلا يمكن أن نشاهد في حياتنا أن قوة الرمي تطورت وأصبحت على ما هي عليه اليوم مصداقا لكتاب الله ثم ننكر هذا الفهم المستقيم والواقع المشاهد بمثل هذه الحيل اللغوية التي ظاهرها تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لكنها في الحقيقة تحصر فهم كتاب الله في أمور معينة بغير بينة
وكتاب الله ليس كتاب فلك وفيزياء وطب لكنه نزل من العليم الحكيم فلا شك أنه سيتضمن إشارات علمية تتجاوز علوم العصر الذي نزل فيه وهذا بالتأكيد من دلائل ربانيته.
ولو ناقشنا المثال الذي تناوله الشيخ في سورة الطارق يعنى الحقيقة يصعب أن نسمع هذا الصوت ولا نقول أن هناك إشارة في القرآن أن هناك نجوم تصدر مثله
وإن كان لا يصح أيضا الجزم بأن هذا دون غيره هو مراد الله كما يذهب أهل الإعجاز العلمي.
وهناك أمور أخرى أظن أن الشيخ تناقض فيها فهو مثلا: يريد أن يستبعد التفسير العلمي للنجم الطارق بحجة أن الله غالبا ما يقسم بما هو متعارف عليه ومشاهد لأغلب البشر. وقبل ان يستدرك عليه غيره استدرك هو على نفسه وذكر أن الله أقسم بالملائكة وهي غيب وليس أغلب البشر يؤمنون بها. حسنا فلماذا لا تعتبر هذا التفسير العلمي للنجم الطارق من القليل الذي أقسم عليه الله وهو ليس مشاهد أو معلوم لأغلب البشر؟
وهنا لا يقال كيف يخاطب الله الناس بما لا يفهمون؟ لأنهم فهموا وعلموا معاني صحيحة من الآية وظل هناك معاني أخرى صحيحة أيضا للآية وفقا للقواعد والسياق اللغوي. ويظل من أراد حصر المعنى على تفسير واحد حديث أو قديم دون غيره هو المطالب بالقرينة ودليل الاستبعاد.
وهناك أمر آخر: وهو نقضه لحصر دعوة الغربيين بمثل هذه التفسيرات العلمية ثم ارتكابه هو لنفس الخطأ الذي انتقده وحصره دعوة الغربيين في فطرية الدين الإسلامي وأخلاقياته وما شابه وأن من يهتمون بهذه العلوم قلة قليلة.
طيب.. على فرض صحة هذا الكلام فهل ينبغي أن نتركهم ولا ندعوهم للإسلام لأنهم قلة قليلة؟
الإسلام دين العالمين وكل له طريقة تؤثر فيه وهؤلاء المهتمين بالعلوم ليسوا قلة ولا شيء بل لم يضرب النصرانية في الغرب سوى نزاعها - الغير ممكن تطويعه - مع العلم وإلا فالنصرانية قد تشكلت على هوى الناس هناك وافقت أخلاقهم ونزواتهم وشذوذهم وكل شيء
وأمر أخير: وهو حصر التحدي القرآني في الألفاظ دون المعاني وجعل المعاني أمر زائد ليس داخلا في التحدي. وهذا غير صحيح أيضا وهنا أنقل بعض الفقرات المثبتة لدخول المعاني في التحدي القرآني من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح:
",فالإعجاز في معناه أعظم وأكثر من الإعجاز في لفظه وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه... "
وقال رحمه الله " وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط أو نظمه وأسلوبه فقط ولا من جهة إخباره بالغيب فقط ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط ولا من جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة من جهة اللفظ ومن جهة النظم ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك. ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي وعن الغيب المستقبل ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى: " وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ". وقال تعالى: " وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً". وقال: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ". وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه !ولا تناقض في ذلك بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له...") انتهى.
ولا شك أن جوهر التحدي هو إظهار عجز الغير عن الإتيان بمثل هذا القرآن فإن كانت المعاني أكثر إعجازا من الألفاظ فهي داخلة في التحدي من باب أولى.
ويبقى القرآن معجزا من كل وجه لأنه كلام الله الذي إذا سمعته علمت أن الذي تكلم به متصف بكمال القدرة والعلم.
تعليقات
إرسال تعليق