نايجل كوندى Nigel Cundy دكتور فيزياء نظرية و لكنه أيضا متمكن جدا من فلسفة توما الاكويني وخصوصا دليل السبب الأول, وله مدونة رائعة بعنوان Quantum Thomist .وهذا شيء نادر جدا أن تجد شخصا قويا في هذين المجالين معا.
عندما كتب نايجل كتابا يوفق فيه بين دليل السببية وبين الفيزياء الكمومية وينقد الحتمية الميكانيكية الكلاسيكية, لم يستطع نشره في مجلة فلسفية (لأن به الكثير من الفيزياء) ولم يستطع كذلك نشره في مجلة فيزيائية (لأن به الكثير من الفلسفة) فنشره في النهاية علي نفقته الخاصة بعنوان :ما هي الفيزياء؟ دفاعا عن الإيمان الكلاسيكى
What is physics?: A defence of classical theism
وبذلك أصبح تعدد التخصصات الذي يفترض به أن يكون سبب قوة الكتاب هو للأسف العقبة التى عرقلت نشره.
أنا شخصيا لم أقرأ الكتاب حتي الآن لكنني قرأت عدة مقالات علي مدونته الشخصية واتضح لي تمكن نايجل فيما يتحدث عنه وأهمية ما يقدمه حتى إنني لأظن أنه أهم بكثير مما قدمه مشاهير الفلاسفة اللاهوتيين أمثال كريغ و فيزر و غيرهم حول الدليل الكوسمولوجي لأن هؤلاء إن تمكنوا من تقديم حججا صحيحة في اثبات وجود الله فعند جرهم إلي الواقع الفيزيائي الذي هو مسرح الأحداث والتفاعلات السببية يظهر ضعفهم وجهلهم الفيزيائي بجلاء مما ينعكس سلبا علي الحجج التي قدموها.
ومع ذلك فالكتاب الذي يقدم معالجة برهانية وفيزيائية قوية سيواجه أزمة تعدد التخصصات التي تكمن في أن المتلقي لو كان اهتماماته فلسفية فسوف يثقل عليه الاسهاب في المحتوي الفيزيائي ولو كانت اهتماماته فيزيائية فسوف يثقل عليه الاسهاب في المعالجات الفلسفية وهكذا تضيع قيمة مثل هذه الجهود أو علي الأقل لا تحظي بالاهتمام والدعم المناسبين.
عندما وقفت -قدرا- علي مدونة نايجل كتبت له أسأله عن بعض أبحاث نماذج السببية الكمومية وعلي هامش الرسالة أرسلت له نسخة من كتابي - ولم أتوقع أن يهتم كثيرا بأمر كتابي بحكم عدم شهرته لديهم - لكنه علي العكس قرأ الفصلين المتعلقين بالسببية والفيزياء وأبدي إعجابه الشديد بهما ثم سطر نقدا تفصيليا مطولا في ٢١ نقطة منها ما وافقني فيه ومنها ما خالفني ,لكنني لم أحظ بمثل هذا النقد الدقيق البناء من قبل. وهذا يعيدنا لنفس المشكلة ..مشكلة أن تكتب في مجال متعدد التخصصات مثل مجال الرد علي الإلحاد. لأنك ستحتاج حينها إلي :
متخصصين متمكنين في الفيزياء لكي يعلموا أهمية ما كتبته عن الفيزياء و متخصصين آخرين في الفلسفة لكي يعلموا أهمية ما كتبته في الفلسفة ومتخصصين غيرهم -في مجال لم يوجد بعد- يجمع بين الفيزياء والفلسفة حتي يعلموا أهمية ما قمت به من توحيد وربط بين المفاهيم والحجج هنا وهناك.
ثم سوف تحتاج إلي متخصصين في البيولوجي لكي يدركوا كيف ينبغي أن يكون النقد الصحيح للتطور وما مدي تفريقك بين الأدلة التي يصح أن تبطله وتلك المغلوطة التي لا تعدوا أن تكون ثغرات معرفية وتعديلات داخلية.
ثم تحتاج إلي متخصصين في علوم الأعصاب والوعي وغيرهم في الذكاء الاصطناعي والرياضيات وغيرهم وغيرهم وغيرهم في كثير من العلوم التجريبية.
ثم تحتاج أيضا لمتخصصين في العلوم الشرعية لهم القدرة علي تفنيد الشبهات الشرعية في العقيدة والفقه و الحديث والسيرة و التفسير لكي يقيموا ردودك علي الشبهات.
ثم متخصصين في الأفكار المعاصرة لكي يدركوا أهمية طرحك ضد المفاهيم المنتشرة حاليا مثل الانسانية والعالمانية والنسوية والمثلية والعلموية والمادية الطبيعانية إلي آخره..
لكن أنى لنا بكل هؤلاء المتخصصين القادرين علي النقد البناء وتطوير الأطروحات الجيدة ورد السقيم منها!!
وأنى لنا بالمؤسسة التي تجمعهم لنا علي هدف واحد ولخدمة قضية واحدة!!
وأنى لنا بالمؤلفين القادرين علي التعلم والفهم في كل هذه المجالات والربط بينها!!
وأني لنا بالجمهور المدرك للمسؤولية التي عليه في دعم من يستحق لكي يستمر في الإنتاج!!
وأني لنا بالقاريء الناقد الذي يتثقف لكي يبنى لنفسه نسق فكري عميق متماسك ,لا ليستعرض بعض الاقتباسات من هنا وهناك!!
يسألنى الأخوة ماذا بعد اختراق عقل؟
والحقيقة أنني لا أعلم كيف ينبغي أن يكون كتابي القادم ,فقد أصبحت أشفق علي القاريء من التعمق والتدقيق وأشفق علي نفسي من التسطيح.
هل أضاعف فيه تركيزي علي التماسك البرهاني والتدقيق العلمي والتناول الشامل؟
أم أضاعف فيه جهدي علي التحزلق المعرفي والوعورة اللفظية والمتاهات الاستعراضية للأقوال والآراء التي تستحسنها النخب المثقفة؟
أم أركز أكثر واكثر علي البهارات والعنتريات الفارغة التي يحبها عموم الجماهير؟
قد يبدو لك الجواب سهلا يسيرا .. لكن صدقني هو ليس كذلك
رب يسر وأعن.
تعليقات
إرسال تعليق