(1) نقد كتاب شون كارول الصورة الكبيرة The Big Picture

كارول هو أستاذ الكونيات و الفيزياء النظرية بجامعة كالتيك و هو أحد المبشرين بالإلحاد الجديد.
و الكتاب مقسم إلى ستة فصول  و كل فصل به عدة أقسام. و قد تناول الكتاب  قضايا فلسفية و علمية كثيرة  و هذا هو المنشور الأول لعرض و نقد ما قدمه كارول و سوف يتبعه بإذن الله منشورات أخرى حسبما تيسر.

____الفصل الأول بعنوان كون Cosmos______

قال تعالي (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)
إن الحل التسويقي لبضاعة عيوبها ظاهرة لا يمكنك إخفاؤها هو أن تعترف بذلك ثم تعطي للمشترى ميزات إضافية تجعله يرى بشكل أو بآخر أنه الرابح في تلك الصفقة.
و هذا بالضبط ما فعله شون كارول في بداية كتابه إذ أقر بأن الطبيعانية أو المذهب الطبيعي naturalism
يبدو مذهبا ساذجا سخيفا عندما نتعامل به في حياتنا اليومية.  و لا يمكن إقناع أحد بأن الحب و الكره و السعادة و  الحزن و الجمال و الوعي و حرية الإرادة و الهوية الشخصية و الفلسفة و الدين و الأخلاق و الصواب و الخطأ و غير ذلك من الأفكار و المشاعر، ما هي إلا إعادة ترتيب لنفس الذرات التي تكون الرمال و الصخور و سائر الجمادات و إن كانت هذه هي عين الحقيقة - في نظر كارول- لكن بما أننا لم نصل بعد لنظرية كل شيء و لا نملك الربط الكامل بين القوانين الفيزيائية الطبيعية و بين هذه الممارسات الإنسانية فينبغي أن نتعامل مع هذه الحقبة الزمنية بأسلوب مختلف عن أسلوب الطبيعانية التقليدي الجاف أو أسلوب المادية الإقصائية eliminativism التي تصنف كل ما سبق على أنه وهم لا حقيقة له و تستخف بالأسئلة الوجودية الملحة عندنا. و كان البديل "التسويقي" الذي قدمه كارول هو الطبيعانية الشعرية poetic naturalism و التي هي طبيعانية مخففة متصالحة مع كل الأفكار البشرية و مقدرة لها باعتبارها وسائل مختلفة للتعبير عن العالم و المعيار عندها ليس هو الصواب و الخطأ - لأنها تفترض أنه لا صواب إلا ما قاله العلم التجريبي عن الطبيعة- و إنما النفع و المضرة. فالطبيعانية الشعرية ترحب بكل وسيلة نافعة للتعبير عن أفكارنا و معتقداتنا.
فعلى سبيل المثال : تطرح مفارقة سفينة ثيوسيوس ( شخصية أسطورية يونانية) سؤال عن الهوية. و السؤال هو : إذا استبدلنا كل ألواح السفينة القديمة  بألواح جديدة و ركبنا من الألواح القديمة سفينة أخرى فأيهما ستكون سفينة ثيوسيوس؟
و نفس الشيء يمكن طرحه حول كابتن كيرك بطل سلسلة ستار تريك و الذي يستخدم  آلة متطورة لتحلل ذراته و تقوم بإرسال مخطط بنسخة منها إلى مكان بعيد في الفضاء لتستقبلها آلة أخرى و تعيد تركيب ذراته بالكلية من المواد الموجودة في بيئتها أو إرسال المخطط إلى آلات كثيرة متفرقة في الكون. و لو فرضنا التطابق التام بين هذه النسخ و الأصل فسوف يتبع ذلك سؤال أيهم الكابتن كيرك؟
الإجابة الطبيعانية التقليدية تقول أنه لا وجود لشيء اسمه كابتن كيرك أو سفينة ثيوسيوس أصلا. فالوجود فقط للذرات و الطاقة التي تتفاعل بها أما السفن و الأشخاص فهذه أوهام صنعناها نحن.
أما الطبيعانية الشعرية فهي تجيب عن هذا السؤال بأنها لا تعرف أيهم الكابتن كيرك و ليس هناك إجابة موضوعية لهذا السؤال و لكنها لا تنفي أهمية السؤال و تتقبل الإجابة الأكثر نفعنا لنا في وصف هذا العالم.

و لذلك أقول أن الطبيعانية الشعرية مجرد حل تسويقي لبضاعة مزجاة غير صالحة للاستخدام الآدمي و ليست معالجة جذرية للتبعات العدمية القبيحة التي تلازم المذهب الطبيعي المادي. فبالرغم من هذه المراوغة التي استهل بها كارول كتابه ليشعر القاريء بأن المذهب الطبيعي يمكنه أن يجد سبيلا ما لاحتضان المشاعر و الأفكار الإنسانية إلا أنه في الحقيقة لم يقدم أي برهان يبرر  به هذا التصالح  الذي زعمه بين المذهب الطبيعي و بين القيم و الأخلاق و المشاعر و الأفكار  الإنسانية عموما و مازل الأمر كما هو و لا يمكنك أن تجد أي سند طبيعي لأي من هذه الأفكار و المشاعر. و إن كان كارول لم يعتمد على هذا التصالح في إثبات صحة الفلسفة المادية الطبيعانية و إن كنا نحن أيضا لا نبرهن على بطلان هذه الفلسفة بعدم وجود هذا التصالح في واقع الأمر. لكن هكذا بدأ كارول كتابه بهذه المحاولة التسويقية الفاشلة.

تعليقات