الجينة الأنانية

في كتاب الجينة الأنانية الصادر عام 1976 قدم ريتشارد دوكينز تفسير دارويني لصور التعاون المنتشرة في الكائنات الحية و اعتمد في ذلك على أعمال جورج ويليامز و هاميلتون و فيشر و ترايفرس و مايرد سميث . و كانت الفكرة الأساسية تتمحور حول النظر إلى الجين على أنه محور عملية التطور و المستفيد الأول و الأخير منها و ليس الفرد الذي يحمل هذا الجين. فالفرد ما هو إلا آلة بقاء ناقلة لهذا الجين يمكن أن يضحي به الجين لو كان في ذلك مصلحة أكبر  تعم أقارب تلك الآلة و الذين بدورهم يحملون نسخا أخرى من هذا الجين. و هذا هو مفهوم انتخاب ذوي القربى الذي قدمه هاميلتون و الذي يجعل الفرد يضحي بنفسه من أجل أبنائه أو أشقائه أو عدد كاف من أبناء عمومته. و الكتاب به جزء كبير مخصص للصراع مع أنصار انتخاب المجموعة و التي تفسر وجود الصفة التعاونية من باب أنها تخدم مصالح المجموعة ككل و بالتالي تبقى المجموعات التي تظهر ببعض أفرادها مثل هذه الصفات و تزول الأخرى التي افتقد أفرادها تلك الصفات التعاونية. و رغم التباين الظاهر بينهما إلا أن النماذج الرياضية تفضي إلى نفس النتائج تقريبا و قد هدأت حدة هذا الصراع حالياً بخلاف ستينيات و سبعينيات القرن الماضي .

لكن الملفت للنظر هو أن دوكينز لم يتعرض لمعضلة السجين في الطبعة الأولى من كتابه و لم يذكرها إلا مرة واحدة و مر عليها مرور الكرام بدون شرح أو توضيح رغم أنه خصص فصولا كاملة لألعاب أخرى في نظرية اللعبة مثل لعبة الصقر و الحمامة التي قدمها ماينرد سميث و برايس. و يكون بذلك قد نشر كتابا يدعي أنه قد قدم تناولا شاملا لمشكلة التعاون في ظل نظرية التطور رغم أن التحدي الأكبر و النموذج الأساسي في عرض المشكلة هو  معضلة السجين بلا منازع. لكن عاد دوكينز و أضاف فصلين في الطبعة الثانية التي صدرت عام 1989 و أضاف على الكتاب فصلين أحدهما عن معضلة السجين و الآخر يعتبر ملخص لكتاب النمط الظاهري الممتد.
لكن ما الذي حدث في تلك السنوات الثلاثة عشر و جعل دوكينز يعود و يعرض أصل المشكلة الذي تجاهله تماما في كتابه؟
الذي حدث هو أن أستاذ السياسة روبرت أكسيلرود قام بعمل دورات جمع فيها مصممي برامج ليضعوا استراتيجيات يمكنها التغلب على استراتيجية الأناني التي يجب أن تربح في ظل معضلة السجين على غرار ما قرأه في كتاب دوكينز من كلام ترايفرس عن الإيثار المتبادل و الذي يجعل المتعاون يتعرف على الفرد الذي يتعامل معه و يعامله بطريقة الجزاء من جنس العمل فإذا كان الشخص المقابل متعاونا في التعامل السابق فسوف أتعاون في المرة المقبلة و إذا كان أنانيا فسأكون كذلك.
أحدهم وضع استراتيجية تلبي هذا الغرض بالفعل و حققت نجاحا و أخفقت في مرات أخرى أمام استراتيجيات أخري.
و كان دوكينز سببا في تعرف أكسيلرود علي  هاميلتون و تعاونهما في ورقة هامة عن معضلة السجين المتكررة و استراتيجية "واحدة بواحدة" التي حققت نجاحا لا بأس به.
و سجل دوكينز حينها هذا الوثائقي مع أكسيلرود ثم أضاف الفصل الحادي عشر إلى كتابه الذي يتحدث عن معضلة السجين و لمحة عن مأساة الموارد المشتركة

http://documentaries-plus.blogspot.com/2012/02/nice-guys-finish-first-richard-dawkins.html?m=1

و  الدرس الذي يمكن تعلمه من ذلك هو أن عرض الحقيقة بشكل منقوص يعد تحريفا لها و دجل علمي.

لكن الحقيقة المؤلمة للدراونة هي أنه لا استراتيجية "واحدة بواحدة" و لا غيرها يمكنها حل المشكلة و المضي قدما مع نظرية التطور بشكل متسق ثابت الخطى .

لأن الأساس الذي يحمل النظرية منحاز تماما للأناني فأي مخدر أو مسكن لن يعالج الداء المستوطن في صلب النظرية.

فمثلا... دوكينز أطال النفس في بيان أن الجين يعطي آلة البقاء قاعدة عامة أشبه بالبرمجة الحاسوبية أو الخوارزميات و هذا يتم ترجمته على شكل سلوك في الكائن الحي. مثل "إذا وجدت صغارا يصرخون في عشك فأطعمهم" أو "إذا كنت أكبر فقاتل و إذا كنت أصغر فاهرب" و هكذا فعندما نجد فيل البحر الذكر الأكبر يسيطر على إقليم كبير بما فيه من الغذاء و الإناث و غيره من الذكور يتركونه بدون مناوشات مستمرة لا جدوى منها و لو  أنها حدثت لقضت على الذكور جميعا من الانهاك. فهذا ليس في حقيقة الأمر ايثارا من باقي الذكور لهذا الذكر و ليس حتي تعاونا لبقاء جنس الفيلة. و إنما هو تطبيق للبرمجة الجينية "إذا كنت أكبر فقاتل و إذا كنت أصغر فاهرب" فكلما نظر الذكر الصغير  لنفسه فوجدها أصغر انصرف و علم أن هذا ليس وقت الصراع و إنما يجب أن يستثمر طاقته في بناء جسم أكبر و هكذا تحرك الجينات كل شيء بهذه البرمجة التي لا يجد دوكينز أي اشكالا في تكونها بالصدفة شيئا فشيء و من ثم نجاح البرمجة الأفضل و بقائها في الجمعية الجينية للكائنات الحية.
و لو تجاوزنا هذا الفرض الهائل و اعتبرنا أن  هذه الحكم و المسلمات و الأقوال المأثورة  للجينات!!  يمكن أن تنشأ  بالصدف المخففة بعامل التدريج (و الذي هو تعقيد غير قابل للاختزال في أغلب الأحوال ) فما الذي سيقف أمام برمجة تقول للكائن الحي كن مخادع أناني و افعل كذا و كذا؟
وفقا الداروينية فإنه لا يمكن استبعاد مقولة كهذه أو أي مقولة على الإطلاق إلا لاحقا من خلال الانتخاب لكن لسوء الحظ فالانتخاب يدعم في المقام الأول المقولات الأنانية  .

و وفقا لنموذج معضلة السجين في نظرية اللعبة فإن المقولة الأنانية ستغلب المتعاونة دائما.

و كل محاولات التسكين و التحايل على هذه النتيجة يمكن التحايل المضاد عليها و العودة إلى نفس النتيجة و التي يلزم منها دمار تام و شامل لكل صور الحياة.

فمثلا استراتيجية واحدة بواحدة تقاوم الأنانية لأنها تعتمد التكرار و بالتالي يكون لكل فرد القدرة على تقييم خصمه و معرفة هل يمكن الوثوق فيه أم لا و كذلك تتيح عقابه. لكن هل هذا حل نهائي؟

قطعا لا لأن الأناني يمكنه التحايل فيغش و خصمه يظن أنه متعاون أو  يغش في أخذ نصيب كبير من الموارد العامة فلا يتمكن المتعاون من منعه فسبل الغش و الخداع لا تنتهي .

و هنا أنا لا اتكلم عن احتمال كبير فحسب  لوجود هذا  الأناني الذي يتغلب في النهاية و يدفع صور الحياة إلى الهلاك. و إنما أنا أتكلم عن قوة مضادة تشل الانتخاب الطبيعي و تغير اتجاهه من بناء إلى تدمير الحياة. و تجعل نظرية التطور عاجزة و غير قادرة على تفسير الظواهر الطبيعية ما لم تدفع تلك القوة المضادة...... و لن تفعل.

و لو تأملنا البراعة الهائلة للكائنات الحية في طرق الخداع  و - خصوصا الطفيليات- لتبلور الأمر أكثر و أكثر في أذهاننا.

و سوف اختار هنا مثال لخداع طائر الوقواق - الذي يعتبر مثال ساذج - الذي يبيض في عش طيور أخرى صغيرة و عندما تفقس البيضة يخرج الوقواق الصغير و يلقى بيض الطائر الأصلي ليبقى هو وحده لأنه طائر ضخم يحتاج إلى تغذية كبيرة و رغم الفروق الواضحة جدا إلا أن الطائر المضيف لا ينتبه لذلك أو كما يقول دوكينز فإن الوقواق يؤثر على الطائر المضيف بتأثير كادمان المخدر فكلما فتح منقاره الأحمر ينتاب  المضيف رغبة في إطعام وفقا لدوكينز

https://youtu.be/QY2J1hMd8Gw
فما بالك بأمثلة الخداع المعقدة مثل  تلك الدودة التي تجعل الصرصور يبحث عن الماء و يلقى نفسه به منتحراً لتخرج هي و تكمل دورة حياتها. أو الحشرة التي تجند النمل كحراس خاصين بمادة كيميائية تطلقها. أو النحلة الملكة  التي تتسلل و تقطع رأس الملكة الأصلية. أو تلك  التي تجعل الشغالات يتولون قطع رأس الملكة الأصلية. أو الدودة التي تصيب الحلزون فتجعله يقف في أماكن ظاهرة فتبصره الطيور فتأكله لتكمل دورة حياتها في بطن الطائر. أو الطفيل الذي يصيب الضفادع فيوثر فوق جينيا على الحمض الوراثي لهم فيخرج لهم أطراف زائدة مما يجعلهم غير قادرين على القفز فيتم افتراسهم ليكمل هو دورة حياته في جسم المفترس. أو حقيبة الاستراتيجيات المذهلة التي تحملها معها الخلية السرطانية لتسيطر بها على الجسد المريض. إلى غير ذلك من العجائب التي لا تنتهي.

كل هذا يعلن أن الخداع لا حدود له و بالتالي فمحاولة تعرف المتعاون على الأناني و من ثم عقابه لن تكون أبدا هي المنقذ للحياة على كوكب الأرض.

و وجود الأنانييون المدمرون لكل صور الحياة هو لازم من لوازم آليات التطور الأساسية. و افتراض أن أسلاف كل الكائنات الحية التي تعمر الأرض اليوم لم يقابلوا هؤلاء الأنانيين أو قابلوهم و كشفوا خداعهم و تغلبوا عليهم هو افتراض غير ممكن في ظل آليات التطور

تعليقات