في وداع هوكينج...



قالت عائشة رضي الله عنها { يَا رَسُولَ اللّهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟.}
سؤالها هذا كان عن رجل كافر مشهور بأعماله ومواقفه الإنسانية الراقية و التي نحبها جميعا بفطرتنا التي فطرنا الله عليها  و نعلم أنها من الخير و يحبها الله كذلك و أمر بها في دينه و جعلها من الحسنات و نفس الأمر ينطبق علي العلوم التجريبية التي بنت حضارتنا المعاصرة و خدمت الإنسانية فكل من له اطلاع علي تلك العلوم ينبهر ببنائها العظيم و بالعقول التي شيدته والإنجازات التي حققتها لنا و عظمة تلك العلوم مستمدة من عظمة خالق هذا الكون المبهر الذي أودع فيه تلك العلوم و أودع فينا عقولا قادرة علي فهم الكون و أمرنا بالتدبر في آيات و خلقه . لكن قد يكون هناك سيئة تحيط بكل الحسنات فتلتهمها و تجعل كل الأعمال هباء منثورا و هذه السيئة هي الكفر و الشرك . قال تعالي (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) و قال تعالي ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا)
و لذلك كان جواب النبي صلي الله عليه و سلم علي عائشة هو ("لاَ يَنْفَعُهُ. إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْماً: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ") ضاعت أعماله الإنسانية و ضاعت كل حسنة قدمها لأنه لم يؤمن بالله و اليوم الآخر . لأنه لم يري نفسه مدينا مخطئا و ظن أنه صاحب الفضل الذي ينبغي تكريمه دائما و أبدا. لكن هذا الغرور هو أكبر كذبة و أكبر خيانة للأمانة . فالحقيقة أنك مدين لربك بكل شيء و مدين له بعقلك هذا الذي اكتشفت به العالم و بنيت به الحضارة و رحمت به غيرك . فهذا العقل هو ليس لك يا من تتبجح بانجازاته و إنما هو أمانة استودعها عندك ربك قال تعالي (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) نعم أيها الإنسان هذا الخير الذي تنسبه إلي نفسك هو ليس لك و إنما هو أمانة فهل صنت الأمانة لصاحبها ؟ . 
قال تعالي (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا )

هذه الآيات عجيبة في وصف المشهد الذي نعيشه فهي تقول لك انتبه فكل صفة عظيمة تحلي بها أحد , ما هي إلا من عطاء الله سواء كانت هذه الصفة في الفريق الذي يريد الدنيا أو في الفريق الذي يريد الآخرة و تقول لك أيضا أن ما تريد أن تعيش من أجله ستجد خزائن لا تنفذ عند الله منه يمدك بها  فلو أردت العلم الدنيوي ستجد بحورا من العلم لا تنتهي في هذا الكون و لو أردت المال فستجد منه الكثير لتكسبه و سيقضي عمرك ولم يقضي طموحك و لو أردت الآخرة و الترقي في درجات القرب من الله فلن تنتهي بك تلك الدرجات عند درجة ليس بعدها ما ترجوه و هكذا . فما عليك سوي أن تحدد وجهتك و ستجد المدد الذي لا ينتهي لكن يا تري هل كل الوجهات سواء ؟ هل من أراد الدنيا كمن أراد الآخرة ؟ و هل من أراد الآخرة كشيء فرعي أو كرهان باسكال  -مثل هؤلاء الغثاء الذين لا يعرفون عن دينهم شيء و لا يقيمون له وزن و هو عندهم لين يمكن الاستغناء عن أي جزء منه بكل سهولة-  كمن أراد الآخرة و "سعي لها سعيها "و هو "مؤمن "؟

الإجابة علي هذه الأسئلة تختلف باختلاف الأولويات:

 فمن كان يري أن الإيمان بالله قضية محورية و مصيرية فسوف يري أن الخلل الذي يفسدها لا يغتفر و هو بالضرورة يفسد كل شيء سواها .

 و من كان يري أن الأعمال الإنسانية هي المحور فسوف يري أن الخلل بها لا يغتفر و ما سوي ذلك يكون هينا فلا اشكال أن يسب ويكفر و يستهزيء الشخص بالخالق و دينه ما دام يتصدق علي الفقراء مثلا . أما إذا كان مؤمن و لكنه يسرق أو كان عالم و مفكر كبير لكنه مغتصب أطفال مثلا فهذا يسقطه بالكلية و لا يجعل لأعمالهم وزنا . 

وأما إذا كان المحور هو العلوم التجريبية و بناء الحضارة فهنا سيكون أهم شيء هو التقدم العلمي أما الايمان بالله و ارتكاب الجرائم في حق الانسانية  فستكون أمورا جانبية يمكن غض الطرف عنها.

اختيار الدين كقضية محورية في حياتك هو المعني الحقيقي للإسلام فهو الاستسلام لله و هو توحيد الله بالعبودية التي هي كمال الحب و الذل و التي هي مقتضي شهادة لا إله إلا الله و انه لا معبود بحق تألهه القلوب إلا الله . قال تعالي ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). 
و اختيار القضية المحورية كان دائما هو مصدر الصراع بين الحق و الباطل و الإيمان و الكفر فالأمر ليس متعلقا بفلسفة الحداثة و التمركز حول الذات الإنسانية بقدر ما هو صراع قديم بين التأله لله و الإستنكاف و الاستكبار عن عبادته  بصنع آلهة أخري تعكس هذا التمرد  و جعلها شريكة لله و ندا له .

لو كان تحقيق الإيمان و الثبات علي الإسلام هو أهم قضية في حياتك لعرفت أن ما قدمه هوكينج من الشر حين استخدم علمه في الترويج للإلحاد يتجاوز بكثير ما قدمه من خير بأبحاثه و مواقفه الإنسانية . أما إذا كان أمر الإيمان قضية ثانوية في حياتك أو قضية وراثة لا تطلب عليها دليلا أصلا و لا تشغل بالك كثيرا بدراستها و التعمق فيها فلا شك أنك ستري هؤلاء الذين كرهوا هوكينج علي أنهم ظلاميين متخلفين و أعداء للعلم و الإنسانية .

هل تريد أن تستشعر شر هوكينج عن قرب ؟ 
حسنا  سأختم بهذه الحادثة ...
منذ فترة أرسل لي أحد الإخوة عدة رسائل يسأل عن بعض الشبهات المتعلقة بالسببية و الفيزياء و كان منها بالطبع نموذج هوكينج-هارتل عن بداية الكون و الذي استخدمه هوكينج في تجاوز السنجولارتي ثم استند عليه في القول بأن الكون لا يحتاج إلي خالق . المهم الأخ كان متعجل علي الإجابة جدا و بعدما أجبته اعتذر عن استعجاله لي و قال أنه مصاب بالسرطان و يخشي أن يأتيه الموت في أي لحظة و هو في حالة شك أو كفر . حاول أن تستشعر هذا الفزع واعلم أن هناك الكثير من الضحايا الذين تأثروا بهوكينج و دوكينز و غيرهم ففقدوا إيمانهم و عاشوا في ضياع و تيه و ضنك ثم هداهم الله أو ماتوا علي الكفر .




تعليقات