لو كان الجمع بين الإنسانية و المادية ممكنا لفعلها جورج برايس


  
هل يمكن أن يعتقد الإنسان أنه نتاج لعملية مادية حتمية يقودها التطور الداروينى و يعتقد فى نفس الوقت أنه إنسان يتمتع بما لا تتمتع به المادة من محتوى أخلاقى ؟

الذى أراه أن حياة جورج برايس تجسد الجواب على هذا السؤال . فجورج برايس هو عالم أمريكى له اسهامات هامة  فى مجالات مختلفة (الفيزياء و الكيمياء و تصميم البرامج والبيولوجى) حتى أنه فى وقت من الأوقات كان مرشحا لأربع جوائز نوبل فى مجالات مختلفة تماما . و قد كان ملحدا شرسا جدا شديد العداء للميتافيزيقا أو التفسيرات الخارقة للطبيعة و كان شديد الإخلاص للمادية و قد تسبب ذلك فى انهيار أسرته و طلاقه من زوجته الكاثوليكية وتركه لها هى و ابنتيه فى أمريكا و ذهابه إلى لندن عام 1967 و هناك قرأ ورقة قصيرة لهيملتون نشرت فى مجلة نيتشر و كان فيها تأسيس لحل المعضلة الأكبر التى واجهت نظرية التطور (و التى مازالت تواجهها ) و هى سؤال كيف ينشأ ويستمر الإيثار رغم كونه مناقضا للانتخاب الطبيعى ؟ 
ورقة هيملتون (الذى أصبح يعد أكبر عالم بيولوجى بعد داروين) كانت مجرد فكرة بسيطة حتى إنه لم يذكر مرجعا واحدا فيها . فقام برايس بوضع معادلة رياضية صاغ فيها فكرة هيملتون عن انتخاب ذوى القربى بل وصاغ فيها مسلمة البقاء للأصلح . و منذ هذه اللحظة أصبح العالم يتحدث عن عبقرية برايس و زاد الأمر بعد أن طبق نظرية اللعبة على الأنظمة البيولوجية هو و ماينرد سميث عام 1972 . لكن العجيب هو أن برايس الملحد الشرس بعد أن وضع معادلته الشهيرة مباشرة و حين بدأ العالم يتحدث عن عبقريته لأول مرة خرج على الجميع بتصريح عجيب و هو أن هذه المعادلة كان من الممكن أن يكتشفها أى شخص آخر غيره و أنها محض فضل و منة من "الله" عليه !!! وتحول بعدها فجأة إلى نصرانى متعصب . فى الحقيقة معادلة برايس تقول أن ما نراه إيثارا هو فى الحقيقة أنانية متوافقة مع الانتخاب الطبيعى (و هذا ما عرضه  فيما بعد ريتشارد دوكينز بأسلوب شعبى فى كتابه الجين الأنانى) و هذا يعنى أنه لا وجود للأخلاق أبدا و إنما هناك مادية بحتة تحكم كل شيء و هذه النتيجة لم يقبلها برايس و ظل بقية حياته يحاول تجاوز معادلته لكن للأسف لم يستطيع .
كان برايس يخرج إلى شوارع لندن يبحث عن المشردين ليعطيهم المال و الطعام بل كان يأخذهم إلى بيته حتى امتلاء بيته بهم ثم تبرع بكل ما يملكه للفقراء وصار مشردا بلا بيت ينام فى الشوارع و ينظف المراحيض العامة إلى أن انتحر عام 1975 .
برايس فعل كل هذا ليثبت لنفسه أنه إنسان و أن الدافع المحرك له هو شيء روحى أخلاقى غير مادى وليثبت لنفسه أنه أعلى من الانتخاب الطبيعى و المادية . فى حين أننا نرى اليوم الملاحدة يتشدقون ليل نهار عن التوافق التام بين الإنسانية و المادية . لابد أن برايس لم يفهم الانتخاب الطبيعى المادى جيدا أو أن الملاحدة لم يفهموا الإنسانية جيدا .

تعليقات